من الظواهر التي تصعب قراءة التحولات السياسية والاجتماعية حالة الخداع المحكم التي يظهر فيها واقع الدول والشعوب قبيل اللحظات الحاسمة في التغيير؛ إذ تكون كافة المؤشرات الظاهرة توحي باستقرار الوضع على حاله، في الوقت الذي تكون عوامل التعرية تنحت فيه بقوة ولكن دون ضجيج، وأحيانا مع ضجيج صاخب لا يمنع من سماعه إلا “عَمَى السمعِ” الذي تضربه المقادير على الآذان حتى يتحقق المكتوب؛ وفق المقولة الشهيرة: “إذا جاء القدر عمِيَ السمعُ والبصر”
ينطبق الأمر على واقع الأمة الإسلامية حاليا على نحو لاشية فيه، فمع أن أوضاعها الحضارية والسياسية في وضع من الرثاثة ما بعده منحدر، مما يكفي شاهدا عليه تفرجها المزري على مذابح غزة واستباحة المسجد الأقصى المبارك، إلا أن النظرة المتبصرة تقطع بأن تنور التغيير قد فار، وأن نهوض الأمة من كبوتها قد حان.
في قصور العلمانية
ولعل الموضوع الذي نتحدث عنه في هذا المقال نموذج ممثل لهذه المفارقة، فالسائد الآن أن تأثير وقوة الحركة الإسلامية قد اجتثا من جذورهما أو في أخف التقديرات قد وجهت لهما ضربات مميتة، لكن الواقع يقول إن هذا التقويم ليس إلا نظرة جزئية لجانب من الصورة ليس هو كل الواقع فضلا عن المتوقع.
ولئن كان نجاح الشاب الملتحي المتربي في محاضن التيار الإسلامي “بصيرو ديوماي فاي” رئيسا لجمهورية السنغال العلمانية نموذجا لفت الأنظار، فإن هناك نماذج أخرى لا تقل أهمية عن هذا النموذج؛ مثل وصول الرمز الإسلامي العالمي “أنور إبراهيم” إلى رئاسة الوزراء في ماليزيا قبل سنتين، فهذا الشيخ الذي أفنى عمره في السعي لتمكين الإسلام في ماليزيا ظل ملهما لملايين الشباب المسلم حول العالم في العمل السياسي البارع وفي الصبر على المحن، وكانت قصة مسيرته بين المنح والمحن منبعا من منابع التكوين التربوي والسياسي لهؤلاء الشباب، وربما يكون “بصيرو ديوماي فاي” الذي تربى في محاضن الإسلاميين السنغاليين إبان محنة السيد أنور، نهل وعب من هذا المنبع.
روح تسري.. وجسد واحد
الحركة الإسلامية المعاصرة امتداد لتجارب الإصلاح الديني والسياسي في تاريخ المسلمين، ولكنها مرحلة متطورة من هذه التجارب، جمعت بين الإرث الإسلامي في “القومة والإصلاح” على حد تعبير الشيخ المرشد عبد السلام ياسين رحمه الله، وبين المنجزات الغربية في مجالات الإدارة والتنظيم، وقد وفق مؤسسو هذه الحركات في الجمع بين المنبعين، كما وفقوا في الاستجابة لتطلعات الشعوب المسلمة إلى المظلة الرمزية الجامعة لحظة سقوط الخلافة العثمانية، ووفقوا – ثالثا – في صياغة رؤاهم في أساليب خطابية وعملية ملهمة ومفهمة.
ولا يمكن وصف القدرة التي تحلت بها الحركة الإسلامية في التأثير على المسلمين بأبلغ من الوصف الذي نعتها به الإمام حسن البنا رحمه الله وهو أنها “روح تسري”، فقد دبت أفكار الحركة الإسلامية في عقول غالبية مصلحي الأمة شرقا وغربا، كما تدب الروح في الجسد، ثم لم تلبث حتى عمت على قطاعات واسعة من النخبة المتدينة ومن ثم انبثت إلى عامة الشعوب الإسلامية، ولا سيما في العالم السني، وأحسب أنه ليس من المجازفة القول إن الحركات الإسلامية قطعت أشواطا كبيرة في النجاح في الدرجات الثلاث الأولى من السلم الخماسي الذي وضعه حسن البنا لمشروعه الإصلاحي المتألف من:
1. إصلاح الفرد المسلم
2. إصلاح الأسرة المسلمة
3. إصلاح المجتمع المسلم
4. إقامة الدولة الإسلامية
5. أستاذية الأمة المسلمة للعالم
ويمكن التدليل على نجاح الحركات الإسلامية في تصوراتها لإصلاح المجتمع المسلم بأن من يعتنقون أفكار الحركة الإسلامية اليوم دون وجود علاقة انتساب لهم بها يفوقون المنتمين للحركات الإسلامية بأضعاف مضاعفة، ويصدق القول إن الحركة الإسلامية وصلت مراحل متقدمة في طريق “الذوبان في المجتمع” والانبثاث فيه بما يحيله كله إلى مثالها وفق تعبير الشيخ حسن الترابي رحمه الله، وحتى لو كان كل من المجتمع والحركة غير مدركين لهذا الأثر فذلك لا يدل على عدم وقوعه، بل قد يكون دليلا على الوقوع.
لقد أصبحت “مقومات وخصائص التصور الإسلامي” التي نظر لها مصلحو الحركات الإسلامية وضحوا من أجلها مترسخة اليوم في وجدان الشعوب المسلمة حتى إن خصوم المشروع الإسلامي لا يجدون سلاحا أمضى منها لمحاربته، وخير مثال على ذلك مؤتمرات الوسطية التي تحشد لها جهات مرتبطة بدوائر خصوم هذا المشروع الغربيين ووكلائهم المحليين.
هذا النجاح يعود لعوامل منها ما ذكرنا سابقا مما يتعلق بظروف النشأة (التوفيق بين إرث الماضي ووسائل العصر، والاستجابة لتطلعات الشعوب المسلمة، وحيوية الخطاب وعملية البرنامج)، ومنها ما يتعلق بالمسيرة التاريخية مثل استشهاد المؤسسين دفاعا عن أفكارهم، وثبات الأجيال اللاحقة من القيادات على المبادئ رغم المحن التي تعرضوا لها، ومثل المحافظة على منهج التدافع الحضاري القائم على استغلال الأطر المدنية والمجتمعية لقيادة الشعوب وتجنب الصدام العدمي.
الدولة الحتمية
لا يعني هذا الكلام أن الحركات الإسلامية لم تقع في أخطاء وانحرافات خلال مسيرتها، ولا يعني إنكار حالة التشرذم وانتشار الخلاف الداخلي التي برزت خلال السنوات الأخيرة في غالبية الحركات الإسلامية، ونزلت بكثير منها عن حالة النموذج الأعلى، وأفقدتها مكانتها في قلوب الشعوب المسلمة، وإنما يعني أن الروح التي نفثتها الحركات الإسلامية في الأمة خلال مسيرتها سرت في جسد الأمة وبثت فيها إرادة القومة الحضارية على نحو لا رجعة فيه، وأكسبتها مناعة لم تعد بحاجة معها إلى محفزات خارجية، فحتى لو تآكلت هياكل الحركة الإسلامية فإن روحها لن تتآكل لأنها انتقلت إلى جسد الأمة العام ولم تعد مقتصرة على الجسد الحركي.
ومن هنا يأتي جزمنا بأن نجاحات الإسلاميين ليست ماضيا طواه الزمان، وإنما هي مستقبل تتتالى علامات قربه، وتتكامل معززات تحققه، وأهم هذه المعززات هي انتقال العمل لهذا المشروع من خصوص الإسلاميين إلى عموم المسلمين أي الانتقال من مرحلة “الحركة الإسلامية” إلى مرحلة “حركة الإسلام”.
إن العقدة التي وقفت في طريق الحركة الإسلامية ومنعت تحقق الأهداف الخمسة التي رسمت لنفسها – كما بينا أعلاه – هي عقدة “إقامة الدولة الإسلامية”، وهو أمر مفهوم بطبيعة الحال نتيجة صعوبة قيام دولة الفكرة على سواعد الحركات، دون أن تكون المجتمعات منخرطة في مساعدتها أقوى انخراط، ولقد تعلم كل من الحركات الإسلامية والمجتمعات الإسلامية من التجارب التي خيضت في هذا المسعى لعقود طويلة، وعرفوا ضرورة تعاون المجتمعات وطلائعها القيادية على هذا الهدف، وأن هذا التعاون قد يقتضي تراجع الطلائع عن القيادة الظاهرة لصالح قيادة المجتمع لنفسه، وتقديمه لقيادات سياسية أقل حركية ولكنها تحمل هم الأمة وتتحلى بأخلاقها، وهو ما يسميه بعض المصلحين “وصول الإسلام إلى الحاكمين”.
وبحسب تحليلي فإن تحقق المرحلة الأولية من هدف إقامة الدولة الإسلامية على أيدي هذا الصنف من القيادات أقرب من تحققها عن طريق الحركات الإسلامية مباشرة، وعلى كل فهذه المرحلة آتية بحول الله تعالى في الأفق المنظور حسب ما تدل عليه دلائل التطور المتنامي لعودة الأمة إلى أحضان الإسلام، وتشوفها إلى السيادة الداخلية والريادة الخارجية لدولها، لا سيما أن المساعي التي تحاول كبت هذا النهوض انحدرت للحضيض حتى صارت تستفز مشاعر التحدي والكبرياء لدى الشعوب المسلمة.
إن استنطاق قوانين نهوض الأمم يدل دلالة لا لبس فيها على أن جهود المصلحين المسلمين وتطلعات الشعوب المسلمة لاستعادة المكانة السياسية للأمة لا بد أن ينضجا بعد قرن من المساعي الحثيثة والأماني الدافقة، وأن تجارب الفشل السابقة ستكون دروسا للنجاح ولن تبقى ركاما من المعيقات.
ولقد ازداد هذا الاستشراف يقينا بعد ملحمة طوفان الأقصى الملحمية التي يجمع دارسوها من كل الأمم أنها صنعت منعطفا في التاريخ لن يكون ما بعده كما قبله، وأن تأثيرها في النفوس أعظم من تأثيرها في الميدان، وقد كتب المفكر الإسلامي محمد المختار الشنقيطي يوما إن قاطرة الأمة التي ستقودها إلى النهوض هي الآن في فلسطين، وقد تحول ما كان استشرافا وضوء في الأفق البعيد إلى فجر منبلج ينبئ عن غد مشرق، وإن غدا لناظره قريب، والعاقبة للمتقين!