خطاب فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني أمام الدورة الثامنة للحوارات المتوسطية المنعقدة في روما – إيطاليا
نص خطاب فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني أمام الدورة الثامنة للحوارات المتوسطية المنعقدة في روما – إيطاليا
“صاحب الفخامة السيد سيرجيو ماتاريلا، رئيس جمهورية إيطاليا،
أصحاب الفخامة والمعالي،
أيها السادة والسيدات،
يطيب لي أولا أن أتقدم بجزيل الشكر إلى سيرجيو ماتاريلا، رئيس جمهورية إيطاليا، على تنظيم الدورة الثامنة من الحوارات المتوسطية، شاكرا له دعوته الكريمة، ومشيدا بما تميز به تنظيم هذه الدورة من دقة وإحكام.
وإنني لأقدر عاليا الدور الريادي للحوارات المتوسطية هذه، والتي ما فتئت ترسخ نسخة بعد أخرى موقعها المتميز كإطار للتشاور حول كبريات القضايا الأمنية والتنموية التي توحد مصير الشعوب على ضفتي البحر الأبيض المتوسط.
صحيح أن بلادنا الجمهورية الإسلامية الموريتانية ليست مطلة بشكل مباشر على ضفاف المتوسط، لكنها تبقى بوابته الأولى على دول الساحل وإفريقيا جنوب الصحراء.
أيها السادة والسيدات،
إن الوضع الأمني لعالمنا اليوم بالغ الخطورة بفعل توسع بؤر التوتر والنزاع المسلح والاضطرابات الاجتماعية والانتشار المتنامي للتطرف والإرهاب والجريمة المنظمة، ويزيده حساسية كون بعض بؤر التوتر والنزاع المسلح القائمة اليوم تنطوي لو خرجت عن السيطرة على مزيد من الخطر، وهذا الوضع الأمني الخطير بحكم ما ينشأ عنه من إرباك لسلاسل الإمداد والتموين وارتفاع مذهل في أسعار الطاقة والمواد الغذائية وتاليا من تضخم وركود اقتصادي وتدهور في القدرة الشرائية للمواطنين له بالغ الأثر على مختلف جوانب الحياة، خاصة أن العالم لم يتعاف بعد كليا من الانعكاسات الكارثية بكل المقاييس لجائحة كوفيد– 19.
ويلخص شعار هذه النسخة الثامنة من الحوارات المتوسطية “الأمن والتنمية” المحورين الأساسيين اللذين تتوزع حولها أبرز التحديات التي تحدد مصير شعوب هذه المنطقة، بل والعالم بأسره، فالأمن والتنمية مرتبطان على نحو وثيق، فلا نمو ولا نماء ولا تنمية شاملة إلا في كنف أمن راسخ وسلام مستدام.
وتأسيسا على ذلك فقد تبنّينا في الجمهورية الإسلامية الموريتانية استراتيجية متكاملة مندمجة في مقاربتنا للتحديات الأمنية، وهي تتركز في الأساس على المحاور التالية:
– تحديث وتقوية جيشنا وقوات أمننا، وقد انصبت جهودنا في هذا الإطار على التكوين والتدريب والرفع من مستوى القدرات العملياتية لقوات الجيش والأمن، وتعزيز شبكات المخابرات وإعادة تنظيم المنظومة الأمنية وإنشاء وحدات خاصة، وكذلك على التنسيق النشط مع الشركاء الإقليميين والدوليين.
– تعزيز الترسانة القانونية للتقاضي فيما يخص العمل الإرهابي من تسريع إجراءات المعاملة الجنائية للجرائم ذات الصلة.
– تجفيف مصادر تمويل النشاط الإرهابي عبر المراقبة الدقيقة لتدفق المال وتنظيم إجراءات الصرف وحركة الأموال وترصد المنظمات غير الحكومية الوهمية.
– مكافحة الهجرة غير الشرعية التي تشكل تحديا لا لموريتانيا بصفتها دولة عبور فحسب، بل تشكل كذلك معضلة حقيقية للدول المستقبلة للمهاجرين. وقد تبنينا في هذا الإطار سلسلة من الإجراءات الحازمة ووضعنا ترسانة قانونية ناجعة للحد من تدفق المهاجرين غير الشرعيين ومنع المتاجرة بالأشخاص وغيرها من الممارسات والجرائم العابرة للحدود، هذا بالتزامن مع بذل جهود جبارة في سبيل تقوية اللحمة الاجتماعية ومكافحة الفقر والغبن والهشاشة والإقصاء وترسيخ الحكامة الرشيدة والحريات الفردية والجماعية.
ولم تقتصر استراتيجيتنا على البعد العسكري والتنموي فحسب، بل شملت كذلك بعدا فكريا هو محور أساس في بنيتها العامة، إذ التطرف في الأفكار هو غالبا منشأ العنف في الأفعال، فالفكر المتطرف هو ما يتحول في البيئة المواتية إلى عنف إرهابي فعلي هادم وفتاك، ولذا عملنا على ترقية العقول من بذور التطرف الفكري بإشاعة ثقافة السلام والمحبة وبنشر قيم الدين الإسلامي الحنيف من تسامح ووساطة وإخاء. كما حرصنا كذلك على تصحيح الانحرافات الفكرية والعقدية قناعة منا بأن الانتصار على العنف والإرهاب لن يكون مستداما إلا إذا كان انتصارا فكريا بقدر ما هو انتصار أمني، ولذا نظم علماؤنا حوارات متعددة مع من غرّر بهم من شبابنا وأعادوا الكثير منهم إلى جادة الصواب، وقد تلقى هؤلاء كل الدعم والمساندة لتمكينهم من الاندماج مجددا في الحياة الاجتماعية الطبيعية، هذا علاوة على تنظيم المؤتمر الإفريقي للسلام سنويا بالتعاون مع منتدى أبوظبي للسلم.
وخلاصة القول أن الأمن لم يعد في أيامنا هذه محصورا في مجرد الدفاع عن الحوزة الترابية، بل صار يشمل صون اللحمة الاجتماعية وأمن الأفراد والمجموعات في وجه التطرف والإرهاب، وكذلك نشر قيم التسامح والانفتاح والعدل التي هي في الأصل كنه الأديان السماوية وجوهرها. كما أن الأمن بحكم عمق الترابط والتأثير المتبادل بين مختلف الدول لم يعد كذلك أمرا تسيره كل دولة بمنعزل تام عن الآخرين بل صار شأنا جماعيا دوليا، ولن يتأتى سلام دائم إلا في ظل أمن الجميع وفي كنف تنمية شاملة مستديمة.
أصحاب الفخامة والمعالي،
أيها السادة والسيدات،
إن الحوارات المتوسطية نموذج للانفتاح وتقبل الآخر والحوار لتعزيز العمل الجماعي في سبيل رفع التحديات المشتركة، وإنني إذ أجدد التعبير عن سروري وارتياحي للمشاركة في هذه النسخة الثامنة من هذه الحوارات المتوسطية لعلى يقين من أنها ستسهم إيجابا في تعزيز قدرتنا الجماعية على ترقية التكامل الاقتصادي فيما بيننا، وتفعيل كل المسارات والاتفاقيات التي من شأنها تحفيز الاستثمارات وتطوير الشراكة لنبني معا منطقة تتطور فيها التنمية الشاملة والمستديمة في كنف أمن راسخ وسلام مستديم.
أشكركم،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته”.