بين مغامرتين نيابيتين: دوافع الإحجام ودواعي الإقدام / الخليل النحوي
الجزء 1: دوافع الإحجام قبل الإقدام
–
اليوم، وقد حدثت صناديق الاقتراع أخبارها، أو بعض أخبارها، وانتهى المجلس الدستوري من النظر في جل الطعون، ودعا رئيس الجمهورية إلى انعقاد “الجمعية الوطنية”، أجد الوقت مناسبا للعودة إليكم، وقد حملتموني، مع لفيف من أبناء الوطن وبناته، مسؤولية النيابة عن الشعب في أداء الوظائف المنوطة بالغرفة التشريعية الوحيدة في الوطن. وهي أمانة خبرتها وأدركت خطرها، وأشفقت منها حتى كدت أحجم عن الترشح لحملها.
نعم، كدت أحجم عن خوض السباق الانتخابي، لأسباب كثيرة أذكر منها أمثلة يسيرة، منها ما يتعلق بالمناخ العام للعمل النيابي، ومنها ما يتعلق بالعمل التشريعي خاصة، ومنها ما يتعلق بمدى قدرة النائب على خدمة المواطنين، ومنها ما يتعلق بإكراهات طبعتنا غير المنقحة من السباق الانتخابي. وهي جوانب طاغية مهيمنة في التجربة كما عشتها، وإن كانت لا تغطي كل جوانب الصورة، كما سأشرح لاحقا.
لقد كدت أحجم، لأنني ذقت في الدورة النيابية السابقة مرارة أن تكون مؤمنا بقضية، متطلعا إلى أدائها بأمانة، وأن ينتظر الناس منك ذلك، ثم تجد نفسك قاصرا عما تريد وعما ينتظر منك، لعوامل لا تملك التحكم فيها. لقد عاينت تلك الهوة السحيقة بين ما يطمح إليه النائب وما ينتظره الناس منه وبين ما يستطيع تحقيقه في واقع له إكراهاته المستحكمة… إنها مفارقة المسافة بين صورة العمل النيابي كما يرتسم، نقيا، في الأذهان، وواقعه في حال الشهود والعيان. وكفى بذلك داعيا للإحجام.
كنت، كما ذكرت قبيل انتخابات 2018، أحلم بأن يتواضع النواب أيا كانت المداخل التي دلفوا منها إلى الغرفة على أن يعملوا بتعاون وتضامن وتكافل عمل الفريق الواحد من أجل أداء مهمتهم في جانبها الفني البحت الذي يقتضي إتقانا في صياغة القوانين أو مراجعتها، وفي جانبها السياسي الذي يقتضي أمانة وموضوعية في مساءلة الحكومة ومراقبة أدائها دون تحامل ولا تخاذل، ورجوت أن أرى النواب في الجانبين معا وفي غيرهما يعملون في تناغم وانسجام ووئام متعاضدين متعاونين على كل ما يخدم هيبة الغرفة وحرمة النائب ورقي الأداء، وخصوصا في ظل مناخ شهد مجهودا بارزا للتهدئة السياسية العامة بعد الانتخابات الرئاسية عام 2019.
وكان التوق للمساهمة في تحسين المناخ السياسي من خلال العمل النيابي قد دفعني إلى أن أسعى في فجر العهدة النيابية السابقة للتفاهم مع مجموعة محدودة من النواب على تشكيل فريق صغير العدد كبير الطموح. لكن “عوامل خارجية” جعلت الفريق يوأد قبل أن يولد. وكان علي لمدة تناهز العام أن أقف وحيدا، أو مع نائبين اثنين، على الحدود بين “غربستان” و”شرقستان”، باصطلاح محمد الماغوط، أو بين “جنوبستان وشمالستان”، على خريطة المشهد الجغرافي للغرفة التشريعية.
خلال تلك الفترة، وبعدها، وجدت نفسي، مع قلة من إخوتي وأخواتي النواب، في موقع الإطفائي الذي يحاول إخماد نار كثيرا ما تشتعل بأبسط عود ثقاب من ملاسنة بين طرفين يحرص كل منهما على استصحاب حالة استقطاب سياسي حاد، كان بالإمكان تركها – ولو مؤقتا – خارج القاعة، أو تلطيفها باستحضار المشتركات الكبيرة المتعالية على التجاذبات السياسية الآنية، أو بمحاولة استصحاب صفة الوقار اللصيقة في الاصطلاح العام بالنائب (وإلا فلماذا يَسِمونه بالنائب الموقر؟). وقد كان مما يخفف من ألمي حين تنشب تلك “الحرائق” أنني كنت أجد إلى جانبي في مهمة الإطفاء بعض نواب الأغلبية، تلك الأغلبية التي لا يندر أن يستفز تبرجها بالغلبة بقية النواب، فيواجهوا شططا بشطط. لكن غبطتي بمعية أولئك “الإطفائيين” الموقرين سرعان ما انطفأت حين اختفوا، ثم وجدتهم يعتذرون همسا بأن بعض مرجعياتهم أمرتهم بالكف عن السعي في رأب الصدع ولم الشمل! وفي هذا المناخ، كان من الطبيعي أن تمتنع الأغلبية، مزهوة بغلبتها، عن تعليق النقاش ولو لدقائق لإتاحة الفرصة لمحاولة إقناع المنسحبين من القاعة بعدم اعتماد سياسة “الكرسي الفارغ”. وحين وقع ذلك في إحدى المناسبات، انتقلت مباشرة إلى “الربع الخالي” حيث كان نواب المعارضة، لأتحدث من هناك وحيدا، مذكرا بأنه لا ينبغي للغرفة أن تسير على رجل واحدة (مهما عظمت) ما دام بإمكانها أن تمشي على رجلين أو على أربع. وكنت بين الفينة والفينة، قبل ذلك وبعده، أتنقل تنقل البدو الرحل بين وسط القاعة وشمالها، أجلس تارة هنا وتارة هناك، لأسجل – رمزيا – احتجاجي على تلك “الحدود” التي تفرق بين المرء وأخيه، ودعوتي إلى أن ندخل الغرفة دخول إخوة يوسف: الأبواب متفرقة، والداخلون إخوة، والهدف واحد: أن نمير شعبنا.
ولكي نبدو كذلك، طالبت بأن ترتب مقاعد النواب ترتيبا ألفبائيا بحتا، لا عبرة فيه بالانتماءات السياسية، لعلنا نشعر أثناء العمل بأننا أسرة واحدة لا فسطاطان متوازيان متنابذان، ودعوت إلى أن نضمن ذلك في النظام الداخلي، سعيا إلى بناء ثقافة عمل نيابي نقي، نسقط بها جدار برلين المنتصب في أذهاننا، ذلك أنه لا يضيرنا في شيء أن تختلف رؤانا السياسية في بعض المسائل، وأن نبقى إخوة نعمل معا في ما نتفق فيه. لقد قالها قديما الإمام الشافعي رحمه اللـه: “ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن اختلفنا في مسألة؟!”. وبالرغم من أن “الجمعية الوطنية” – كما أسميناها في ترجمة حرفية! – قد أخذت في تطبيق الترتيب الألفبائي، فإنها مع الأسف لم تنعتق من ذلك الإرث الفرنسي القائم على توزيع القاعة إلى يمين ويسار لكل منهما ترتيبه الألفبائي الخاص، وكلاهما حمى محمي لمجموعة مخصوصة، وكنت وما زلت أرى أنه لا ينبغي أن يكون لنا من ذلك الإرث السياسي نصيب لا بفرض ولا بتعصيب، أحرى في أمر لنا عنه في قيمنا ومصالحنا مندوحة.
وهكذا فإن جل ما كنت أحلم به، في مجال ترقية مناخ العمل النيابي والمساهمة عبره في تحسين المناخ السياسي العام، لم يتحقق على الوجه الذي كنت أرجوه. نعم، تحقق بعضه، كما ذكرت في تقرير مفتوح عن العهدة النيابية السابقة، لكن ما وقع ظل على مسافة من سقف التوقع.
***
في جانب العمل التشريعي، بدا لي أنني كنت في غالب الأمر أضرب في حديد بارد، حين أدعو إلى إتقان النصوص، باعتبار صناعة القانون في جوهرها عملا فنيا لا ينبغي أن يتأثر بأي تجاذبات سياسية. لقد اصطدمت دعوتي ودعوات بعض النواب من مختلف المشارب بصخرة عرف ميكانيكي يقوم على أنه من المتعذر أن يراجع أي قانون مراجعة جوهرية في مرحلة النقاش التمهيدي (على مستوى اللجان)، فالنص يأتي محوطا بهالة قدسية باعتباره صادرا عن الحكومة، وقد يضطلع نواب من كل المشارب بواجبهم، فيلاحظون وينقدون، لكن التعديلات الجوهرية التي تقترح قلما تعتمد، وحين يرفع النص إلى الجلسة العامة، تكون النتيجة إجازته أيا كانت جوانب النقص والقصور والخطأ فيه. وقد عبرت غير ما مرة عن أملي في أن أرى الجمعية الوطنية تسجل في تاريخها أنها عمدت إلى قراءة ثانية – ولِمَ لا ثالثة – لنص مّا حرصا على إتقانه. وكم قرّ بعيني أن شهدت ذات مرة يتيمة قراءة ثانية لقانون، لكن هذه القراءة جاءت بمبادرة تذكر فتشكر من رئيس الجمهورية الذي مارس حقا كانت “الجمعية الوطنية” قد حرمت نفسها منه، بالرغم من أن مسوغ طلب القراءة الثانية كان حاضرا في مداخلات النواب.
ولأن القوانين لم تكن تخضع قبل مناقشتها للدراسة التمهيدية التي ينص عليها النظام الداخلي، ولأنها كانت تُمَرَّرُ غالبا على عجل كما تمرر بضاعة مُهَرَّبة، فقد وجدت نفسي غير ما مرة أغرد خارج السرب بالتصويت بـ(لا) إذا رأيت في القانون خللا جوهريا، أو بالتحفظ إذا بدا لي أن في القانون مواد وجيهة، وأن في بعض مواده الأخرى شبهة أو شبهات تمنعني من التصويت لصالحه كله. ولم يكن أمامي خيار آخر، ذلك أن الغرفة لم تعتمد في تلك الإنابة، ولا مرة واحدة، طريقة التصويت على القانون مادة مادة، بالرغم من أن ذلك هو الأصل. ولو أنها فعلت لسهل الأمر ولما لجأت إلى التحفظ أو التصويت بـ (لا) إلا على المادة محل الشبهة.
وهكذا وفي ظل ذلك العرف المستحكم، شهدتُ التصويت بإجماع الحاضرين على مشروع قانون كنت المتحفظ الوحيد عليه، وكان علي أن أستعمل حقي القانوني لأشرح أسباب خروجي على إجماع طالما حلمت به. لقد أردت أن يفهم الإخوة والأخوات في الغرفة ويفهم الجهاز التنفيذي ويفهم الرأي العام أنني لم أقف ذلك الموقف وحيدا بدافع المعارضة أو المشاكسة، وإنما اتساقا مع ما يمليه علي ضميري، ودعوة إلى إتقان المهمة الفنية المتمثلة في مراجعة القانون وتنقيحه، وتكييفه مع مقتضيات الشريعة الإسلامية، طبقا لما ينص عليه الدستور.
لقد وجهت رسائل من هذا القبيل، لكن يبدو أنها كانت كثيرا ما تضل طريقها، بدليل أن بعض إخوتي داخل الغرفة وخارجها لم يجدوا لبعض مواقفي تلك تأويلا أقرب ولا أحسن من أن يتهموا صاحبهم بأنه “معارض”، متناسين السياق والمواقف الصريحة المعلنة، والسباحة في ظرف حرج ضد تيار جارف معلوم!
وبالرغم من ذلك، لم يتزعزع إيماني بأنه ليس لدى نائب ما طريقة للدعم والمؤازرة أفضل من أن يؤيد ما يراه صالحا، ولا ينكره، ويبين الخلل حيث وجده، ويدعو لإصلاحه دون تشنج، ويحكم ضميره في التصويت لقانون ما، أو في المطالبة باحترام مسطرة قانونية لئلا يكون للناس على نوابهم حجة، ولكيلا تغش السلطة التشريعية أختها السلطة التنفيذية، أو تحرج أختها الثانية (السلطة القضائية) فتوجه إليها نصوصا معيبة.
لقد جئت ذات مرة إلى أحد الوزراء، قبل أن يخرج من القاعة وبعد أن لبت الغرفة طلبه بالتصويت المريح على مشروع قانون قدمه، فقرأت بين يديه مادة في القانون الذي كان يدافع عنه يعطي نصها عكس المعنى المقصود! قلت له: هذا هو النص الذي سيوجه إلى القضاة للعمل به، ولن يعدموا من الفهم ما يدركون به أن المفهوم المقصود نقيض المنطوق، ولكن ما الذي يحملنا على أن نكلهم إلى فهمهم؟ والحال أن باستطاعتنا أن نتريث قليلا لنصحح النص ونقومه، فالأصل أنه لا اجتهاد مع النص، وأن المشرع أولى بتحديد مدلول كلامه، وأن القانون يفقد صفته إذا كانت مضامينه ملتبسة، أحرى إذا أعطت كلماته عكس المعنى المقصود.
ولأن الاستدراك التشريعي الذي يعين على تصحيح الألفاظ والتراكيب بمواءمتها مع الدلالات والمقاصد المستهدفة لم يدخل بعد في تقاليد عملنا النيابي، كان أحسن مآلات بعض النصوص المعلولة أن يتصرف فيها الجهاز التنفيذي مستقلا فيصحح نصا قانونيا دون الرجوع إلى الجهة الوحيدة التي تملك صلاحية تصحيحه. وقد يكون تصرفه هذا صوابا بالرغم من كونه خطأ من الناحية القانونية. لكن تصرف الجهاز التنفيذي في النصوص، وإن كان حالة استثنائية، قد يذهب أبعد من ذلك، فتجد في الجريدة الرسمية – على سبيل المثال – قانونا برقم وتاريخ معينين، ثم تجد بعد أشهر، في عدد لاحق من الجريدة الرسمية، نسخة أخرى معدلة من القانون عينه، بالرقم عينه، والتاريخ عينه، والحال أن المادة القانونية لا تعدل إلا بما يعادلها أو يفوقها قوة (قانون جديد ناسخ مثلا).
لقد تولد لدي في تلك المواقف وأشباهها انطباع بأن الغرفة التشريعية لا تؤدي مهمتها على النحو المناسب، أحرى وهي كثيرا ما تمرر القوانين بعدد محدود من النواب الحاضرين قد لا يبلغ نسبة 20% من مجموع النواب الذين عهد إليهم الشعب بهذه المهمة. وقد نجد لتلك الحالة تخريجات قانونية أو عرفية، لكن ذلك لا يعفينا من التساؤل: أين هم النواب؟ وأذكر بتقدير لرئيس الجمعية الوطنية السابق السيد الشيخ أحمد بايه أنه طلب من النواب بعد التصويت على أحد القوانين ألا يغادروا القاعة وأذن لممثلي الحكومة بالانصراف، ثم طرح بامتعاض مشكل غياب جل النواب عن الجلسات…
***
وعلى بساط خدمة المواطنين، عدت إلى نفسي غير ما مرة أسائلها: ما ذا يستطيع النائب أن يقول لمن يتخذونه ساعي بريد لعرض قضاياهم وشفيعا لحل مشكلاتهم، وذلك حقهم وواجبه، إذا كان بعض الوزراء وكبار المسؤولين يوصدون أبوابهم أمام النائب، أو يفتحون له أبوابهم ولا يفتحون له قلوبهم، بالرغم من التعليمات الرئاسية بتقريب الإدارة من المواطنين. بل إن من الوزراء من كان يمتنع عن منح رقم هاتفه لنائب لا يطلب لديه أي مغنم شخصي! أعود فأقول “بعض الوزراء” حتى لا أظلم وزراء ومسؤولين آخرين يتعاطون بإيجابية وأريحية مدركين أن النائب وسيط اجتماعي وأن لقاءه قد يدخر للوزير أو المسؤول وقتا لو لم يستقبل النائب فيه لاحتاج إلى أضعافه لمقابلة عشرات أو مئات أو آلاف المواطنين الذين يحمل النائب أصواتهم ومطالبهم.
لقد وجدت في تلك الفجوة الكبيرة بين المطلوب من النائب والمتاح له ما يكفي للإحجام، تحت ضغط أسئلة ملحة لنا إليها عودة. (يتبع)