في ختام رحلة علاج وشيء من السياحة … شكر ورجاء/ الخليل النحوي

 

في ختام رحلة علاجية استأنفت فيها حياة جديدة من حيواتي المتعددة التي أرجعني ربي بها، لعلي أعمل صالحا، وهو المستعان على ذلك، أزجي الحمد لمستحقه، ربي الذي أحسن بي وكان بي حفيا، وأشهدني من عجائب ألطافه وأفضاله ما لا وفاء بحمده وشكره إلا بمحض فضله وجوده ومنه وكرمه…وصدق من قال:
إذا كان شكري نعمة اللـه نعمة ** علي له في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الحمد إلا بفضله ** وإن طالت الأيام واتصل العمر
ولأن من لا يشكر الناس لا يشكر اللـه فإنني أتوجه بشكر مستحق إلى الأطباء التونسيين الذين أكرموا وفادتي واجتهدوا في علاجي وعلاج أفراد من الأسرة، وفي مقدمة هؤلاء الأطباء الأخ العزيز الأستاذ الدكتور الطيب بن ميلاد، والأستاذ الدكتور الجراح صبحي الارقش والأستاذ الدكتور فتحي خواجه، والأستاذ الدكتور نجيب بن عبد اللـه، والأستاذة الدكتورة ألفه بن قمرة، والدكتور إسكندر كمون، وغيرهم من أخصائيي الطبابة والتخدير والأعوان الطبيين.
وقد غمرني، خلال الرحلة، إخوة وأخوات أعزاء بعنايتهم عطفهم وصالح دعائهم، منهم عدد غفير من المواطنين، اكتفى بعضهم بالاتصال بالمرافقين للاطمئنان دون أن يعرف بنفسه {لا تعلمونهم اللـه يعلمهم}. وكان في طليعة المتصلين الداعين بخير رئيس الجمهورية والوزير الأول ورئيس الجمعية الوطنية الحالي والسابق، وعلماء ومشايخ وأدباء ومثقفون ووزراء أول سابقون ووزراء وسفراء ورؤساء بعثات دبلوماسية موريتانية أو معتمدة في موريتانيا ونواب وعمد وقادة أحزاب سياسية ومنظمات مجتمع مدني وقادة مجتمع وأطر سامون، هذا بالطبع إضافة إلى عدد كبير من المواطنين الكرام.
ولتعذر ذكر جميع هؤلاء، ولما في ذكر بعضهم دون بعض من حرج، سأكتفي بتوجيه شكر خاص إلى فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد بن الشيخ الغزواني الذي شرفني باتصال يفيض عناية وعطفا. ومن خلال فخامته، وباعتباره رمزا للبلد، أزجي الشكر موفورا مستحقا لكل شخصيات البلد وأعيانه ومواطنيه الكرام الذين غمروني بكريم عنايتهم.
وقد اتصل بي أو بالمرافقين إخوة أعزاء من بلدان أخرى، بينهم شخصيات تونسية، منهم من تعرفت عليه قديما وفقدت الصلة به، ومنهم من شرفت بمعرفته أيام العلاج، ومنهم – لا ضاعت أقدامهم – من شدوا الرحال لزيارتي قادمين من بعض المدن الداخلية النائية. كما تلقيت مباشرة أو بواسطة رسائل حانية داعية من جل قادة المجامع العربية وبعض قادة مؤسسات العمل العربي المشترك، ومن شخصيات عربية وإفريقية مرموقة.
إلى هؤلاء وأولئك، وإلى كل من اتصلوا بي أو بمن هم على صلة بي، وإلى آخرين كانوا معي بدعواتهم الصالحة، أتوجه بشكر خاص مقرون بالاعتذار عن عدم تمكني وعدم تمكن مرافقيّ من الرد على معظم الاتصالات والتعاطي معها بما يلائم وقعها في القلوب. ولا أملك لجبر ذلك النقص غير المتعمد إلا أن أحيل من حملوا هم الاتصال والدعاء والاستشفاء على مَلِيٍّ كريم سميع قريب مجيب أسأله، جل في علاه، أن يغمرهم جميعا بأفضاله، وأن يقيهم من كل سوء ومكروه وأن يكتب لنا ولهم الحياة الطيبة في هذه وتلك. كما أسأله سبحانه أن يحفظ رئيس الجمهورية ويسدد خطاه ويؤيده بالبطانة الصالحة ويوفقه لما فيه خير البلاد والعباد.

شيء من السياحة…
لم تكن رحلتي التونسية هذه مجرد رحلة علاج. لقد كانت لي فيها منافع أخرى بحمد اللـه، فقد استفدت من فترة النقاهة ومراجعات الأطباء لقضاء مآرب أخرى. وكان الأطباء والأصدقاء التونسيون، بدعم من سيدي الشيخ محمد الحافظ النحوي، يلحون علي في لزوم الراحة، مع فسحة صغيرة من السياحة الهادئة التي لا تتطلب كبير جهد. وقد ظل الأخ العزيز الشيخ الدكتور أبو لبابه حسين رئيس جامعة الزيتونة سابقا، ورئيس هيئة علمائها حاليا، يطلب يوميا وبإلحاح أن يرتب لي برنامجا سياحيا أعد له سيارته وسيارة نجله الكريم الطاهر. وكانت لهذا العرض الكريم وجاهته، فنحن في بلد سياحي وفي موسم سياحي، لكنني لم أعدم ما أعتذر به. ومع ذلك، فقد قبلت الدخول في ضرب خاص من السياحة حسبته في طوق الاحتمال، ورأيت ضرورته حتى لا أبقى رهين الفراش، وحتى لا تكون الحركة لمجرد الحركة،
مررت بمقر المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم التي عملت فيها نحو 12 عاما. وكان لقائي فيها بأخي معالي المدير العام د. محمد بن أعمر، وبأخي مدير ديوانه الأستاذ عبد الحق حايف وببعض أطر المنظمة من الموريتانيين عوضا جميلا عن افتقاد من عرفتهم وألفتهم هناك قبل سنين. لقد سألت عنهم فلم أجد أيا منهم في مكانه. وكان ذلك برقعا من البراقع التي وضعتها تونس على وجهها حتى لا أتبين إلا اليسير من قسماته التي أعرف. كان من تلك القسمات مدرسة عمر بن الخطاب، وهي قلعة لتعليم القرآن والعلوم الشرعية أسسها صديقنا الراحل الشيخ حسن الورغي رحمه اللـه، وصمدت في وجه زعازع معروفة بمساعدة بعض أهل الخير النافذين حينها، ومنهم الشيخ صلاح الدين المستاوي الذي شرفنا بمقابلته من غير موعد مسبق عندما زرنا المدرسة بمعية الشيخ أبي لبابه، فوجدنا الشيخ صلاح الدين في استقبالنا مع الشيخ محمد بلال سليل الشيخ الحسن ومرابطين في هذا الثغر من المغرب وبوركينافاسو. وفي هذه الزيارة الخاطفة عبر لنا الشيخ صلاح عن الرغبة في تفعيل المدرسة وتطوير أدائها باستقدام علماء موريتانيين مؤهلين لتدريس المتون المحضرية الأساسية. وغير بعيد من المدرسة، مررنا أمام البيت الذي آوانا سنين عددا في شارع عبيد اللـه بن الحبحاب في منطقة سكرة، ومضينا كأننا لا نعرف الدار ولا تعرفنا… كذلك يكون العبور في هذه الحياة…!
وكان لا بد من وقفة إزاء سور مقبرة الزلاج لتذكر راحلين عرفتهم كانوا ملء سمع الدنيا وبصرها حينا من الدهر. من هؤلاء – وهم كثر – أخي الراحل المرحوم الأستاذ عبد اللـه با بكر الذي أسفت، بالرغم من محاولات الاتصال بأهل بيته، لعدم التمكن من الاهتداء لمرقده. لكن لعالم الأرواح نواميس غير نواميس عالم الأشباح. ولعل الأرواح التي تعارفت وتآلفت قد تواصلت، رحم اللـه المستقدمين والمستأخرين.
وفي يوم سياحي آخر، زرنا كلا من بيت الحكمة واتحاد الكتاب التونسيين، واغتنمنا الفرصة لتوقيع اتفاق مع الهيئتين. وهنا أود أن أتوجه بخالص الشكر إلى صاحب المعالي د. محمود بن رمضان رئيس بيت الحكمة (المجمع التونسي للعلوم والفنون والآداب) وإلى دة هالة الورتاني، مديرة النشر والتوزيع وبقيه معاوني الرئيس. كما أتوجه بالشكر إلى سعادة الأديب والأستاذ الجامعي د. العادل خضر رئيس اتحاد الكتاب التونسيين ود. محمد سعد برغل وذ. منور بن مبارك الذين شرفت بلقائهم في اتحاد الكتاب.
وكان ختام هذه “السياحة” طوافا بين أروقة قصر العدالة في تونس، وسعيا بينها وبين سجن المرناقية، فقد علمت أن ثلاثة من أبناء بلدي موقوفون تحفظيا منذ بضعة أشهر، وعلمت أن السفير دمان همر قام بمساعي ما تزال متواصلة من أجل الإفراج عن هؤلاء المواطنين. وهي مساع يتابعها بعض أعضاء السفارة وأعيان الجالية.
مؤازرة لهذه المساعي، ترددت على قصر العدالة على أمل مقابلة قاضي التحقيق. وهو ما تحقق لي في اليوم الثالث حيث لم أوفق لمصادفته في المكتب قبل ذلك. شكوت للقاضي من طول أمد اعتقال هؤلاء المواطنين حسب المعلومات المتاحة، واستعطفته ورجوته أن يُعْمِلَ أي رخصة يتيحها له القانون لتفريج كربة إخوته وضيوفه، وطلبت منه السماح لي بمقابلة الموقوفين. بدا القاضي في البداية صارما شأن جل القضاة في عيني المتهم. حاول أن يقنعني بأنه لا صفة لي تسمح لي بزيارة هؤلاء المواطنين، وكنت قد اطلعت على قانون نظام السجون التونسي (رقم 52 لسنة 2001 الصادر في الرائد الرسمي، بتاريخ 18 مايو 2001)، وقد نص في الفصل 35 على أنه “يمكن، بصفة استثنائية، لغير الأقارب أو للأشخاص الذين لهم تأثير أدبي على السجين زيارته”، لكنني لم أر فائدة في محاججة القاضي بالقانون، واكتفيت منه بأن أستظهر بمذكرة من السفارة. ولم تنته مقابلتنا حتى طمأنني إلى أن التحقيق سيختم قريبا، وأظهر نسبة من التجاوب أفضل من تلك التي بدأ بها، فصدقت في ذهني الصورة التي نقلها لي أحد المحامين، حين قال إن القاضي يتعمد إظهار الصرامة لكن في قلبه رصيدا من الإنسانية، واعتذر عنه بأن عليه ضغوطا كبيرة بسبب ملفات أخرى ساخنة.
في اليوم الموالي، عدت إلى مكتب القاضي، فوجدته منشغلا بالتحقيق مع متهمين، فتوجهت مباشرة إلى مكتب وكيل الجمهورية المعين حديثا. ولم يلبث أن أذن لي بالدخول من غير موعد مسبق. استقبلني بوجه بشوش يفيض أريحية، وأحسن الإصغاء إلي وأبدى تفهما طيبا لعرضي ولمطالبي، واتصل يستعلم عن الملف، ووعدني خيرا. ثم عدت إلى مكتب القاضي حيث تسلمت ترخيصا لزيارة سجينين، فتوجهت من فوري إلى سجن المرناقية. وهنا تكشف لي من “وعورة الطريق” على حديث عهد بعملية جراحية ما لم أكن أتوقع. اضطررت للنزول من السيارة والمشي رويدا رويدا مسافة كنت أخشى ألا أتمكن من قطعها. وكان الوقت الذي يأخذه التدقيق في الأوراق والمشاورات بشأن الزيارة فرصة ثمينة في بعض المحطات لالتقاط الأنفاس. في إحدى البوابات سلمت جوالي فوضعوه في الصندوق رقم 7 وسلموني مفتاحه، وفي بوابة أخرى سلمت جوازي، وحين دخلت الغرفة (4) من غرف مقابلة النزلاء، حمدت اللـه أن ثبتني وأعاننى حتى لا أرجع قبل الوصول. كانت في الغرفة طاولة صغيرة ومقعدان خشبيان خفيفان. أخذت موقعي على أحدهما خلف الطاولة، وما لبثوا أن جاءوا بمقعد ثالث وجاء اثنان من الموقوفين، علمت منهما ومن أحد المحامين أنهما قد اعتقلا قبل 7 أشهر أو تزيد، والحال أن القانون التونسي لا يجيز الاعتقال التحفظي أكثر من ستة أشهر إلا بتمديد محدود الأمد، ومتغير حسب الجنحة أو الجناية. وقد حمدت اللـه أن وجدت هؤلاء المواطنين في وضع صحي ومعنوي مقبول، وإن كان أحدهما قد ذكر بعض العوارض الصحية التي أبلغنا بها إدارة السجن والسلطات القضائية المختصة. وخرجت من اللقاء متفائلا بما توحي به رواية السجينين من رجحان براءتهما – وهي الأصل ما لم تثبت الإدانة – أو انتفاء ما يقال إنهما اتهما به. وعلمت أنهما قد اتخذا من القرآن الكريم أنيسا، ونعم الأنيس، جعله اللـه لنا ولهم ولكل مكروب جلاء للحزن وذهابا للهم والغم.
لم أتمكن مع الأسف من مقابلة موقوف ثالث قيل لي إنه اعتقل بطلب من الأنتربول وإن موريتانيا طلبت تسليمه لكن عدم وجود اتفاقية قضائية بين البلدين يجعل الأمر خاضعا لمسطرة طويلة قطع فيها شوط مهم، لكنها لا تكتمل إلا بقرار أو مرسوم رئاسي تونسي.
هنا أود أن أتوجه بالشكر للسلطات القضائية التونسية وإدارة سجن المرناقية، وأن أعرب، على أساس من الثقة بالقضاء التونسي، واقفا وجالسا، عن أملي في أن يفرج اللـه قريبا عن مواطنينا الموقوفين في هذا البلد الشقيق، وأن يفرج عن كل سجين بريء، وأن يعين الموريتانيين في مهاجرهم، وفي وطنهم، على صون الصورة العامة لهم، صورة المسلم الأمين المسالم الذي يمشي على الأرض هونا، ويعمل الصالحات، ويجسد مكارم الأخلاق، ويجتنب مواقف الشبهة، ويحرص على سمعة شعبه ووطنه، ويسرع الفيـئة إن زلت به قدم. وأملي أن تتابع مصالحنا الدبلوماسية والقنصلية سعيها لتفريج كربة الموقوفين والمفقودين من أبناء الوطن، وأن تسعى لدى الدول الشقيقة والصديقة لتيسير مهمة أي نائب يرغب في استطلاع أخبار الموريتانيين المغتربين الذين يوجدون في أوضاع حرجة، لعل ذلك يكون عونا في الإفراج عنهم أو تأمين المعاملة العادلة العاجلة لهم طبقا لقيم الدين ومبادئ القانون.
ولعل الوزارة المنتدبة المكلفة بالموريتانيين في الخارج تجد آلية ومنهجية ملائمتين لرصد حالات اعتقال الموريتانيين واختفائهم في الخارج وتحريك دواليب الدبلوماسية الحكومية والنيابية والشعبية للإفراج عن الموقوفين أو لتيسير محاكمة من تتعين محاكمتهم في وطنهم، ضمن اتفاقات أو تفاهمات تعاون قضائي. وهي مناسبة أغتنمها لدعوة السلطات العمومية لبذل المزيد من الجهود من أجل استعادة المفقودين، ومنهم الغائبان العزيزان اللذان طال انتظارهما: إسحاق مختار ورشيد مصطفى، فرج اللـه كربتهما وجمع الشمل في خير وعافية.
هذا وأود أن أتوجه بشكر مستحق لإخوة وأخوات كرام وأبناء وبنات بررة توافدوا علي مهنئين بسلامة العودة إلى الوطن، سلمهم اللـه ووقاهم من كل سوء، وحفظ الوطن وكشف الغمة عن الأمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى