يتفاعل في الساحة الوطنية، منذ أسابيع، موضوع اتفاق موريتاني أوروبي حول معاملة المهاجرين العابرين إلى أوروبا الذين يعمل الاتحاد الأوروبي جاهدا، منذ عقود، لتفويض جيرانه للتعامل معهم، قبل أن يتجاوزوا الحدود. ويتردد خبر التزام الاتحاد بأن يدفع لموريتانيا مبلغ 210 مليون يورو قبل انقضاء السنة الجارية، كما لو كان حدثا جديدا ويفوت على غالبية الرأي العام الموريتاني كون التفاهمات الموريتانية الأوروبية حول المهاجرين غير جديدة وسارية بالفعل منذ أكثر من عقدين كما سنبين من خلال هذه المعالجة التي نمهد لها بمعاهدات الاتحاد الأوروبي من جهة ودول إفريقيا والكاريبي والمحيط الهادي من جهة أخرى (1)، والتي تم بناء عليها توقيع تفاهمات بين موريتانيا وإسبانيا كان لها أثر سيء على سمعة البلد (2)، وأقول تفاهمات لأنها لم تتبع المسطرة القانونية لإبرام الاتفاقيات، وبذلك لا تعد ملزمة للدولة الموريتانية (3)، وتجدر الإشارة هنا إلى أن التفاهمات أنتجت أثرها على أرض الواقع وانعكست على التشريع الموريتاني كما دأب الأوربيون على دفع أجرة حراسة حدودهم لموريتانيا، بصورة دورية، على شكل دعم للتنمية (4)، وعلى الرغم من كون موريتانيا نفذت رغبات شريكها الأوروبي، فإن ما طبع معاملتها للمهاجرين من تعسف أساء إليه، فيما يبدو، ولذلك يسعى للحد من التجاوزات في إطار الاتفاق المرتقب (5)، وأختم هذه المعالجة باقتراح شخصي في الموضوع (6).
1.
أبرمت المجموعة الأوروبية عدة اتفاقيات مع مجموعة دول إفريقيا والكاريبي والمحيط الهادي ACP بدأت باتفاقية لومي، الموقعة في عاصمة التوغو، بتاريخ 28 فبراير 1975 واتفاق كوتونو، الموقع في العاصمة الاقتصادية لبينين، بتاريخ 23 يونيو 2000، الذي دخل حيز التطبيق في فاتح إبريل 2003، لمدة 20 عاما، انقضت بتاريخ 31 مارس 2023 وإن كان الأوروبيون يتمسكون بأنه تم تجديده. وقد أفردت المادة 13 من اتفاق كوتونو لطرق معالجة مشاكل الهجرة وطرحت حل إعادة المهاجرين غير الشرعيين إلى بلدانهم. ولكن الاتحاد الأوروبي انتبه، أثناء سريان اتفاق كوتونو، إلى أن الالتزامات العامة، وإن اتخذت سندا لترحيل مواطني الدول إليها، بناء على قبولها، إلا أنها غير فعالة ولا تكفي لكبح جماح المهاجرين المتدفقين على الشواطئ الأوروبية، ولذلك سعى الاتحاد إلى إبرام اتفاقيات ثنائية يمكن أن تباشرها، من الجانب الأوروبي، إحدى دوله مع الدول الجارة المستعدة للتكفل بحراسة الحدود. وأدرك الاتحاد وأعضاؤه أنه لا مناص من دفع مكافآت مادية لكل متدخل، وأن المنح يتعين أن تناسب طموح المستفيد ومستوى إسهامه في حماية حدود الاتحاد المحروسة. وبدلا من التصريح بالخدمة المطلوبة وتحديد مقابلها، وربما تجنبا لرفع المكافأة، فضل الطرف الأوروبي أن يعمل على وضع معاهدات تصنف الهجرة السرية ضمن الجرائم الدولية العابرة للحدود (المعاهدة الدولية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود المعروفة بمعاهدة بالرمو الموقعة سنة 2000) وبروتوكول مكافحة تهريب المهاجرين عن طريق البر والبحر والجو الملحق بها، كي تعد محاربتها واجبة على كل دولة، محبذا في ذات الوقت أن يدفع مقابلا للدول الحارسة في نطاق التعاون البيني على شكل مساهمات في تنمية بلدان الجنوب كي يظل إسهامه أقرب للمكارمة منه للحق.
وأنشأ الاتحاد لهذا الغرض الصندوق الأوروبي للتنمية FED ورصد لتدخلاته مبلغ 30,5 مليار يورو، تغطي الفترة الممتدة من 2014 وحتى 2020 سنة دمج الصندوق الأوروبي للتنمية مع مؤسسات الاتحاد التي تتدخل في تمويل دول الجنوب والتي تضمها الآن “الآلية الأوروبية للجوار والتنمية والتعاون الدولي” NDICI (Neighbourhood, Development and International Cooperation Instrument)، ورصد الاتحاد لتدخلات الآلية مبلغ 79,5 مليار يورو تغطي الفترة الممتدة من سنة 2021 وحتى سنة 2027.
ويلاحظ تواضع المبلغ الذي تدفعه دول الاتحاد الأوروبي لتنمية بلدان الجنوب والذي يأمل الاتحاد أن يرتفع، خلال السنوات القادمة، ليصل نسبة 0,70% من الناتج الداخلي الخام PIB لبلدان الاتحاد الذي وصل سنة 2022 مبلغ 15.905 مليار يورو، وضآلة نصيب موريتانيا التي تقدم خدمة كبيرة في حراسة الحدود الجنوبية للاتحاد، وتتحمل فاتورة وحرج ووزر ذلك.
2.
كانت موريتانيا ضمن الدول المؤسسة للمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا ECOWAS CEDEAO – التي نشأت بموجب اتفاقية لاغوس، الموقعة بتاريخ 28 مايو 1975 وانسحبت منها سنة 2000 قبل أن توقع معها من جديد اتفاق شراكة، في أغسطس 2017، يجير تنقل المواطنين المنتمين لبلدان المنظمة البالغة خمسة عشر بلدا والتي يزيد عدد سكانها مجتمعة على أربعمائة مليون نسمة. ونص الاتفاق على حق مواطني مجموعة غرب إفريقيا في دخول الأراضي الموريتانية دون تأشيرة. ونظرا لانتشار البطالة وشح الموارد وفرارا من الفتن والحروب التي نشبت في بعض دول المجموعة الإفريقية دأب الكثير من مواطني دولها للتوجه إلى شواطئ نواذيبو، التي تبعد عن حدود أوروبا أقل من 600 ميل بحري، وتجشم الكثيرون مخاطرة ركوب قوارب تبحر بهم إلى جزر الكناري الإسبانية المقابلة مجازفا بحياته ومدركا أنه قد لا يصل وجهته أبدا. ولمواجهة غزو المهاجرين المتدفقين من دول مجموعة غرب إفريقيا (التي يضاهي عدد سكانها مواطني الدول الأوروبية مجتمعة) تواصلت إسبانيا مع موريتانيا حول ملف الهجرة ووقعتا اتفاقا، في مدريد بتاريخ 3 يوليو سنة 2003، تلتزم الثانية بمقتضاه باعتراض المهاجرين إلى أوروبا والتعامل معهم لقاء مساعدة فنية من الأولى.
وفي يناير 2006 اعترضت قوات الأمن الإسبانية، على شواطئ جزر الكناري، سفينة مارين 1 (Marine 1) وعلى متنها 369 شخصا فقامت بتوجيهها إلى موريتانيا التي مانعت أولا في استقبال ركاب السفينة قبل أن تذعن للمطالب الإسبانية وتقبل إنزال الركاب في عنبر لمعالجة الأسماك حيث ظلوا تحت رقابة قوات الأمن الإسبانية إلى أن بت في طلبات اللجوء التي قبلت لخمس وعشرين منهم ورفضت للباقين وأسرت إسبانيا في نفسها قبول موريتانيا لأن يعمل رجال أمن أجانب في إقليمها.. وخلال الفصل الأول من السنة (2006) اشتد سيل القوارب المكتظة بالمهاجرين الزاحفين من دول غرب إفريقيا وجنوب الصحراء حيث رصدت إسبانيا وصول ثلاثة آلاف مهاجر لشواطئ جزر الكناري في شهر مارس (خلال فترة لا تتعدى شهرين ونصف الشهر) وفي يوم 15 مارس 2006 أبلغ الصيادون الإسبان في المنطقة الواقعة بين شمال إفريقيا وجزر الكناري عن وجود جثث بشرية عائمة في مياه المحيط الأطلسي أرسلت لها السلطات الإسبانية المستشفى العائم ESPERANZA DEL MAR الذي رفع، في ذلك اليوم وحده، 24 جثة مما أثار هلع سلطات المملكة الإسبانية ودفعها لأن تتصرف على عجل بإرسال وزيريها للشؤون الخارجية والأمن إلى نواكشوط حيث اجتمعا مع وزيري الخارجية والداخلية الموريتانيين، بتاريخ 16 مارس 2006. وعلى إثر لقاءات الجانبين بعثت إسبانيا 150 عنصرا من الحرس المدني GUARDIA CIVIL الإسباني وطائرة ومراكب بحرية ودأبت على تسيير دوريات مشتركة مع الدرك الموريتاني على امتداد شواطئ نواذيبو، التي كانت منطلقا للكثير من قوارب الموت.
وتمت تهيئة مدرسة مهجورة في نواذيبو (قبالة المزارع) لاستقبال فلول المبعدين من إسبانيا والمتهمين بالتسلل إلى القارة العجوز مما ترتب عليها اكتساب المدرسة رقم 6 لسمعة سيئة “اغوانتاناميتو” وهو تحوير، على الطريقة الإسبانية، لتسمية المعتقل الذي أقامته السلطات الأمريكية آنذاك، في برزخ لمعاملة معتقلي القاعدة في حيز يقع خارج دائرة الاختصاص الترابي للقضاة الأمريكان الذين تعهدوا، رغم ذلك، وأصدروا قرارات جريئة وعادلة من أمثلتها قرار القاضي الاتحادي روبرتسون، بتاريخ 9 ابريل 2010، في القضية التي رفعها محامو محمدو ولد صلاحي ضد باراك حسين أوباما (ممثل الدولة آنذاك). القرار الذي يتألف من 32 صفحة خلص فيها إلى أنه لم يثبت لديه أن ولد صلاحي ظل في صفوف القاعدة إلى أن اعتقل وأن الولايات المتحدة الأمريكية لم تقدم ما يثبت إدانته وأن خوفها من عودة محمدو لصفوف القاعدة لا يشكل، في قناعة القاضي، مبررا للاحتفاظ به في سجن مؤبد.
ونظرا لمعاملة نزلاء “اغوانتاناميتو” كمعتقلين في انتظار اقتيادهم إلى معبر الحدود مع السنغال (روصو) ومع مالي (كوكي الزمال)، واعتبارا لعدم تمكينهم من قرارات مكتوبة يمكنهم الطعن فيها، وفي ظل عدم استفادتهم من أي مساعدة قانونية، وفي غياب تام للقضاء الموريتاني، تعالت أصوات الحقوقيين المنددة بسوء معاملة نزلاء المدرسة رقم: 6 وكانت الأصوات المنطلقة من الجانب الأوروبي أكبر أثرا، حيث قامت منظمة العفو الدولية AMNESTY INTERNATIONAL بإرسال فريق استقصاء أساليب معاملة المشتبه بنيتهم الهجرة إلى أوروبا، توجت اتصالاته بنشر تقرير مؤرخ فاتح يوليو 2008، متوفر باللغة العربية تحت عنوان: (“موريتانيا لا أحد يريد أن يهتم بأمرنا” عمليات الاعتقال والطرد الجماعي للمهاجرين الذين يمنعون من الدخول إلى أوروبا) ورد فيه ما يلي: “وتأتي سياسة الاعتقالات هذه، التي تنتهجها السلطات الموريتانية، نتيجة للضغط الحاد الذي مارسه الاتحاد الأوروبي على البلاد، وبخاصة إسبانيا، في سعيه لإشراك بعض الدول الإفريقية في محاولته محاربة الهجرة غير النظامية إلى أوروبا”.
وعلى الرغم من عدم اعتراض السلطات الموريتانية للمنتمين إلى دول مجموعة غرب إفريقيا عند دخول البلاد فقد كان الاشتباه في نيتهم الهجرة إلى إسبانيا سببا كافيا للاعتقال، وفي بعض الحالات اعتقل بعضهم لمجرد ارتداء سربالين واستجوب حول ما إذا كان يتأهب لتحمل برد المحيط وربما أحيل، بناء على تلك التهمة غير المشبهة، إلى “غوانتاناميتو” ومنها إلى الحدود مع السنغال أو مع مالي.
وحتى تاريخ كتابة هذا المقال بتاريخ (26 فبراير 2024) ما تزال فرقة الحرس المدني الإسباني وأفراد من الشرطة الإسبانية عاملين في نواذيبو بعد أن حول بعض الأفراد إلى نواكشوط لمراقبة الشاطئ الواقع في رحاب مينائي الصداقة وتانيت.
3.
لم تعرض السلطات الموريتانية اتفاقيتها ولا تفاهماتها اللاحقة مع الاتحاد الأوروبي حول معاملة المهاجرين على الهيئة التشريعية (التي خولها الدستور التصديق على المعاهدات وتحديد الجرائم والعقوبات وشروط إقامة الأشخاص ووضعية الأجانب) كما لم يمضها رئيس الجمهورية وإنما وقعها بعض الوزراء: فقد وقع اتفاقية 2003 مع إسبانيا، عن الجانب الموريتاني، وزير الشؤون الخارجية ووقعت بعض التفاهمات اللاحقة من طرف وزير الداخلية، وفيما يتعلق بالتمويلات والمشاريع كثيرا ما وقع برامجها وزير الاقتصاد الموريتاني مع مندوب الاتحاد الأوروبي في موريتانيا، بل إن بعض تفاهمات محاربة الهجرة السرية وقع من طرف قائد أركان الدرك الموريتاني (أوردت الوكالة الموريتانية للأنباء بأن قائد الدرك الوطني ومدير الحرس الوطني الإسباني وقعا في نواكشوط، بتاريخ 7 مارس 2019، اتفاق تجديد التعاون).
ونظرا لعدم عرض الاتفاقية والتفاهمات المتعلقة بالهجرة على البرلمان، وفي غياب إمضاء رئيس الجمهورية لها فإنها غير قانونية ولا تعد ملزمة للدولة الموريتانية التي تنص المادة: 78 من دستورها على ما يلي: “معاهدات السلم والاتحاد ومعاهدات التجارة والمعاهدات والاتفاقيات المتعلقة بالتنظيم الدولي وتلك التي تلزم مالية الدولة والمعاهدات الناسخة أحكاما ذات طابع تشريعي وتلك المتعلقة بحدود الدولة كلها لا يمكن التصديق عليها إلا بموجب قانون” كما تنص المادة: 36 من دستور الجمهورية الإسلامية الموريتانية على ما يلي: “يمضي رئيس الجمهورية المعاهدات ويصدقها”.
إن توقيعات الوزراء، بما فيهم الوزير الأول، للمعاهدات، قبل مصادقة البرلمان عليها، توقيعات تمهيدية غير ملزمة للدولة ما لم تكتمل مسطرة التصديق بتصويت البرلمان بالسماح بالتوقيع ووقوع الإمضاء المادي من رئيس الجمهورية الذي يجسد الدولة، ونشر المعاهدة في الجريدة الرسمية، كي لا يعذر المواطنون بجهل الاتفاقيات التي خولها الدستور سلطة فوق سلطة القانون، بنص المادة: 80 من الدستور.
وهكذا فإن المسطرة القانونية لإجازة الاتفاقيات تمر بأربع مراحل أولها توقيع تمهيدي لمشروعها من طرف أحد أعضاء السلطة التنفيذية (يعتبر في حكم الوعد)، وثانيها التصويت البرلماني على قانون يقضي بالسماح لرئيس الجمهورية بإمضائها، وثالثها الإمضاء المادي لرئيس الجمهورية (الذي يفترض أن يلتزم بالنص الذي أجازه البرلمان دون زيادة أو نقصان)، ورابعها النشر الذي تصبح الاتفاقية بموجبه نافذة. وقد ظلت هذه المسطرة محترمة في موريتانيا منذ استقلالها حتى بداية الحكم العسكري للبلاد بانقلاب 10 يوليو 1978.
4.
على الرغم من عدم إجازة اتفاقية وتفاهمات معاملة المهاجرين بين موريتانيا وأوروبا فقد أنتجت أثرها في الواقع حيث تتواجد في موريتانيا اليوم قوات أمن أجنبية يحمل أفرادها السلاح مع أن في ذلك مساس بسيادة البلد. كما انعكست التفاهمات على الترسانة التشريعية الموريتانية بسن قوانين وطنية تنفيذا لها، واستلمت الدولة مقابلها منحا وتسهيلات مالية على شكل دعم أوروبي للتنمية من قبيل ما وعدت به رئيسة المفوضية الأوروبية خلال زيارتها لنواكشوط، يوم 8 فبراير 2024.
ففيما يتعلق بالوجود العسكري؛ يوجد في نواذيبو، بصورة دائمة، منذ سنة 2006، تشكيلان من الأمن الإسباني أحدهما من الحرس المدني GUARDIA CIVIL والثاني من الشرطة الوطنية الإسبانية، ويتوفران على وسائل لوجستية لمراقبة المنطقة البحرية الواقعة بين جزر الكناري والشواطئ الموريتانية من ضمنها طائرة مروحية وسفينتان بحريتان، وقد تدخلت الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والشواطئ FRONTEX بمساعدة القوة الإسبانية في المنطقة، ونفذت عملية (هيرا) HERA لوقف القوارب المنطلقة من غرب إفريقيا باتجاه جزر الكناري.
وفي ظل تناغم السلطتين التشريعية والقضائية مع السلطة التنفيذية، وغياب الشفافية في ممارسات الإدارة الموريتانية، وضعف تأثير هيئات المجتمع المدني، لم تجد السلطات الموريتانية صعوبات كبيرة في تشريع معاملتها القاسية للمهاجرين، حيث سنت القانون رقم: 2010 – 021 الصادر بتاريخ 15 فبراير 2010 المتعلق بمكافحة تهريب المهاجرين غير الشرعيين الذي نشر في عـــدد الجريدة الرسمية رقم: 1214 الصادر بتاريخ: 30 إبريل 2010، وهو قانون استثنائي يستند على خلفية سياسية تنبني على رابطة الجنسية بعكس نصوص التجريم ذات الجذور الأخلاقية في الغالب (كما بينت في مقال: التجريم السياسي في موريتانيا، المنشور في أغشت 2017)، إذ تضمن عقوبات قاسية، وقرر استثناءات غير مقبولة على قانون الإجراءات الجنائي الوطني، ولذلك فمن المشروع الشك فيما إذا كان البرلمانيون ناقشوا فحواه واستعرضوا عقوباته التي تصل إلى عشر سنوات سجنا وغراماته التي تبلغ عشرة ملايين أوقية، وتسلط غالبا على الفقراء (المادة: 4)، وتقييده لقانون الإجراءات الجنائية الوطني بمنع وقف تنفيذ العقوبات الذي تخوله الإجراءات للقضاة في حال توفر ظروف معينة (المادة: 33)، ومن المريب أن عقوباته تتجاوز الحدود المقررة لاستخدام السلاح ضد القوة العمومية في موريتانيا.
وربما أسهمت التزامات موريتانيا لأوروبا فيما يتعلق بالهجرة في إنشاء خفر السواحل الموريتاني بموجب القانون 2013 – 041 الصادر بتاريخ 12 نوفمبر 2013 الذي ضمن في مهام هذا السلك “مواجهة الهجرة السرية في البحر” الهجرة السرية التي تتعاون عليها كافة أسلاك الشرطة القضائية الموريتانية (بما فيها الشرطة والدرك وخفر السواحل).
ومن آثار التفاهمات دفع الاتحاد الأوروبي تمويلات حسب برامج يغطي كل واحد منها عدة سنوات Programme Indicatif Pluriannuel: PIP وفي هذا الإطار حددت “الآلية الأوروبية للجوار والتنمية والتعاون الدولي” NDICI لدعم التنمية في موريتانيا، خلال السنوات من 2021 وحتى 2024، مبلغ 152 مليون يورو، ومن المحتمل أن تقترح الآلية للسنوات الأربع المقبلة تمويلا يزيد على المبلغ الذي تحدثت عنه رئيسة المفوضية الأوروبية أثناء زيارتها لنواكشوط (210 مليون يورو)، بعد أن حدد الاتحاد مبلغ 195 مليون يورو للفترة من 2014 حتى 2018 (11ème FED) ومبلغ 156,5 مليون يورو للفترة الممتدة من 2008 وحتى 2013 (10ème FED). ومن شأن رفض الرئيس التونسي، خلال شهر أكتوبر 2023، لمبلغ 60 مليون يورو مقدم من الاتحاد الأوروبي واستنقاصه أن يسهم في زيادة المبالغ التي يدفعها الاتحاد للدول التي تتعاون في وقف الهجرة.
5.
أدى تفاني السلطات الموريتانية في التصدي للمهاجرين إلى أوروبا وما تخلل تدخلها، خلال سنة 2006 وما بعدها، من اعتقال عابري السبيل الأفارقة وإبعادهم دون أن يتمكنوا من تقديم طلبات لجوء ودون أن تبلغ لهم قرارات إبعاد يتاح الطعن فيها، بالإضافة إلى عدم وجود رقابة إدارية أو قضائية تضع حدا للتعسف، هذه المآخذ أدت إلى إحراج الشريك الأوروبي الذي لاحظ بالإضافة لتلك النواقص تعاطي الرشوة بين وكلاء “فرونتكس” وسلطات الأمن الموريتانية، كما يعكسه نص التوصية رقـم : A9 – 0358 – 2023 الصادرة عن البرلمان الأوروبي بتاريخ: 26 أكتوبر 2023 المتعلقة بمفاوضات الاتحاد الأوروبي مع موريتانيا حول عمل “افرونتكس” في أراضيها، وهي التوصية التي كلف المشرعون الأوروبيون رئيسة المفوضية الأوروبية بإبلاغها للحكومة الموريتانية.
وتعكس التوصية الاستياء الأوروبي من عدم احترام الحقوق الأساسية في موريتانيا، والانعكاس السلبي لغياب نظام قانوني موريتاني يتيح دراسة طلبات اللجوء التي يمكن أن يتقدم بها المهاجرون، وعدم حصولهم على مساعدة قانونية قبل إبعادهم بالقوة دون إجراءات. وعلى الرغم من كون الأوروبيين فاتحوا شريكهم الموريتاني بالنواقص وطلبوا منه السعي للتغلب عليها ودفعوا له تمويلات لغرض العمل في سبيل إقامة دولة قانون، إلا أن الإصلاح لا يزال عصيا بسبب حرص السلطة التنفيذية على التحكم وتبعية السلطتين التشريعية والقضائية لها. وعلى الرغم من وجود إطار مؤسسي ملائم نظريا، حيث يوجد دستور يضمن فصل السلطات ويكرس الحريات وقوانين تحظر التعذيب، إلا أن ذلك ما يزال حبرا على ورق بسبب عدم استقلالية القضاء وتبعية هيئات الرقابة التي ينص القانون على تعيين رؤسائها من طرف رئيس الجمهورية وخاصة في ظل ما يؤخذ على النظام من التعيين في المناصب على أساس الولاء السياسي وعدم اعتماد معايير الكفاءة والاستقلالية.
6.
في سنة 2004 أنشأ الاتحاد الأوروبي الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل (فرونتكس) FRONTEX وبعد أن كان نشاط الوكالة محصورا في نطاق دول الاتحاد والدول التي تقع على حدوده المباشرة بدأت الوكالة تمد عيونها إلى ما وراء البحار، وتسعى لتوسيع تدخلها في الجنوب للسيطرة على طرق الهجرة إلى الشمال، وفي هذا الإطار شرعت “فرونتكس” منذ سنوات في دراسة وضع قواعد متقدمة في موريتانيا والسنغال بهدف تأمين الحدود الجنوبية للاتحاد ومنع وصول قوارب المهاجرين إلى شواطئ جزر الكناري، وتمهيدا لذلك افتتحت الوكالة في نواكشوط، بتاريخ 20 سبتمبر 2022، خلية لدراسة المخاطر.. وبعد أن كانت (فرونتكس) تعمل بالتنسيق مع عناصر الأمن الإسبان، المتواجدين في موريتانيا، يسعى الاتحاد الأوروبي إلى تجسيد اتفاق تتمركز بموجبه قوة مسلحة من “افرونتكس” في البلاد تكون لوكلائها حصانة تمنع من مساءلتهم مما يثير جدلا داخل الاتحاد وقد لا يتقبله الموريتانيون بصدر رحب.
وتتسارع اللقاءات الأوروبية الموريتانية من أجل إبرام اتفاق حول معاملة المهاجرين، وفي هذا السبيل أعربت مندوبية الاتحاد الأوروبي في موريتانيا عن رغبة مفوضة الشؤون الداخلية بالاتحاد الأوروبي في القيام بزيارة رسمية لموريتانيا يوم 7 مارس 2024 مصحوبة بوزير الداخلية الإسباني، وسكرتير الدولة البلجيكي المكلف باللجوء والهجرة.
وفي تقديري الشخصي أن توقيع موريتانيا لاتفاقية مع الاتحاد الأوروبي حول معاملة المهاجرين تتعارض مع الاتفاق الموقع مع المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا الذي يسمع بتنقل الأشخاص، وأن المصلحة العليا تتطلب الاختيار بين ما يعرضه علينا الاتحاد الأوروبي وما يحققه الاتفاق مع مجموعة الجيران.. الجواب من اختصاص الاقتصاديين.