روسيا – بوتين إلى أين؟

هل روسيا في أزمة؟ تساؤل بات مطروحا في الداخل الروسي، وخارج حدودها الجغرافية، ومرد الأمر الكثير من علامات القلق التي تلف المشهد الروسي، عسكريا أول الأمر، وسياسيا تاليا.

في الداخل ترتفع مخاوف من الأوضاع الاقتصادية بصورة خاصة، أضف إلى ذلك القلق الذي ولده مشهد جماعة فاغنر المسلحة، من يوم تمردها وصولا إلى الحادث الغامض الأخير الذي “قيل” إن مؤسس الجماعة الميليشياوية، يفيغيني بريغوجين قد راح ضحيته.

لماذا الاهتمام وربما القلق من مسارات روسيا الداخلية، ومساقاتها الخارجية؟

باختصار غير مخل، لأنها قوة نووية عسكرية، يمكنها حال الهروب إلى الأمام، أن تعرض أمن العالم وأمانه، وسلامه واستقراره لسيناريوهات كارثية، ناهيك عن أن بعضا من توجهاتها الاقتصادية، تترك تأثيرات سلبية على بقاع وأصقاع عديدة حول العالم، وقضية وقف تصدير حبوب أوكرانيا، مثال سلبي وسيئ في الوقت عينه.

من أين للمرء بداية أن يلقي الضوء على مجريات المشهد الروسي؟

ربما من عند الأحداث الجسام الأخيرة، والتي تنهج النهج الروسي اللغز، المغلف دوما بالأحاجي، والمغرق في الأسرار الملقاة في جب عميق.

كيف نشأت جماعة فاغنر، وهل كان لها أن ترتقي على هذا النحو من غير مشروطية من الكرملين، ورقابة من أعين ورثة الـ “كي .جي.بي”؟

رغم كل ما أريق من أحبار على الأوراق، تبقى هناك حلقات مفقودة في القصة، لا سيما منذ مايو أيار الماضي، حين تابع العالم تحركات غريبة، وأحادث أغرب، عن ميليشيا لا يتجاوز عددها عشرين أو خمسة وعشرين ألفا، تهدد الكرملين القابض على جمر القوات المسلحة الروسية، تلك التي تبلغ ثلاثة أرباع مليون جندي، وترسانة نووية تحدث بها الركبان.

وفي حين يظهر بريغوجين في إفريقيا، في توقيت مواكب لقمة البريكس في جنوب إفريقيا، يفاجئ العالم بموته داخل طائرته الخاصة، هو ونائبه، وعدد من كبار قادته، ما جعل نظرية المؤامرة تعمل بأسرع من البرق عمن يقف وراء الحادث، وهل هو مجرد حادث قدري، أم جريمة مدبرة بليل بهيم، لمن تحدى نفوذ القيصر وسلطته، مع بقاء العديد من الأسئلة مفتوحة عن مصير قوات فاغنر عينها، وبأمر من ستأتمر في الغد، وهل ستكون هناك محاولات تالية للثأر، وإذا كان ذلك كذلك فممن سيأثر أتباع القائد المغدور.

مشهد جديد يستدعي التوقف أمامه روسيا، ذاك الخاص بالأوضاع الاقتصادية لاسيما بعد أن طال زمن الحرب العبثية مع أوكرانيا.

يدرك القاصي والداني، أن روسيا لن تنهزم عسكريا، وهو أمر تعيه جماعة الناتو جيدا، ومع ذلك فإن الانكسار الروسي، قد يحدث من باب مغاير، باب الأوضاع المالية القلقة والحائرة.

وصل الدولار الأميركي إلى قرابة المئة روبل روسي، الأمر الذي دعا بوتين نهار الثلاثاء الماضي للتصريح أمام مسؤولين حكوميين بالقول: “إن حجم وتعقيد المهام التي نحلها ونواصل حلها ذات طبيعة استثنائية حقا”.

يستشعر بوتين خطرا حقيقيا من جراء التضخم المتصاعد، وارتفاع الأسعار المخيف، ما أدى إلى تراجع مستوى المعيشة، في وقت يستعد فيه لتدشين محاولة متوقعة للفوز بولاية جديدة مدتها ستة أعوام في مارس آذار 2024.

في الوقت نفسه تتعرض ميزانية روسيا لضغوط بسبب ما يسميه بوتين “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا، ما اضطر البنك المركزي الروسي إلى رفع أسعار الفائدة الأسبوع الماضي لوقف تراجع الروبل.

اعتمدت شرعية بوتين طويلا على تحسن الأوضاع الاقتصادية في البلاد، ورفع مستوى معيشة المواطنين، وتأمين احتياجاتهم، بعد فترة تلاعبت فيها الأوليجاركيات الروسية بمآلات الشعب.

غير أن تلك المكاسب تكاد تتراجع في حاضرات أيامنا، بل تراجعت بالفعل، ما يجعل فرص إعادة انتخاب بوتين أمرا مشكوكا فيه.

على أن الخوف الأكبر الذي يستشعره بوتين، ويداريه أو يواريه، موصول بجماعة “السيلوفيكي” أي كبار المسؤولين الروس المحيطين به والنافذين في الدولة، لاسيما داخل المؤسسات العسكرية والاستخبارية، ذلك أنه عند نقطة مفصلية بعينها، وحال استشعار خطر حقيقي على مصير الحكم، لاسيما إذا ارتفع صوت الشعب بالمعارضة، سيكون من المؤكد إزاحة بوتين والسعي في طريق بديل، وليس سرا أن هناك أحاديث عن إعداد بوتين لهذا الخيار… ماذا عن هذه الفرضية؟

يبدو الاسم الأول المرشح لخلافة بوتين، مثيرا للدهشة، إذ إنه لا يبدو في مقدمة جماعة السيلوفيكي المحيطة ببوتين، ومع ذلك فإنه الأكثر قربا من قلب بوتين وعقله، لاسيما أنه أنقذه ذات مرة من الموت المحقق.

الحديث يدور حول ألكسي ديومين، الحارس الشخصي السابق لبوتين، والذي تشير بعض المصادر المعلوماتية ذات الصبغة الاستخبارية، إلى كونه البطل الحقيقي الذي فاوض يفغيني بريغوجين، وليس رئيس بيلاروس لوكاشينكو.

ديومين رجل دولة، حاكم ولاية تولا، ضابط روسي برتبة فريق، من مواليد عام 1972، أي أنه في أوائل الخمسينات، ما يعطيه ميزة خاصة عن المرشحين المتقدمين في العمر من حول بوتين.

إلى أين تمضي روسيا؟

التساؤل المتقدم يحمل قلقا واسعا، حال وضع تصريحات الرئيس الروسي السابق، ديمتري ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن القومي، تحت الأضواء.

ميدفيديف يكتب الأيام القليلة الماضي وعبر مقال نشرته صحيفة “ارجومنتي إي فاكتي” الروسية، بأن موسكو تفكر جديا في ضم منطقتي أبخازيا وأوسيتيا الانفصاليتين عن جورجيا، إلى بلاده، ومضيفا “من الممكن تنفيذ المقترح إذا كانت هناك أسباب وجيهة لذلك”.

مثل هذا التصريح يدفع أوروبا خاصة والناتو عامة للمزيد من القلق حول نوايا روسيا – بوتين في التوسع على حساب جيرانه الآسيويين اليوم، وربما الأوروبيين في الغد، ولهذا نرى القلق ينتاب فنلندا والسويد وبولندا.

هل ستسعى موسكو إلى نظرية الهروب إلى الأمام، ومحاولة التوسع ومد رقعة الحرب إلى خارج أراضيها؟

تاريخيا، صاحب كل حرب روسية، توسع جغرافي في حدودها، حدث ذلك مع روسيا القيصرية، ثم الشيوعية، والآن تبدو روسيا الاتحادية أمام هذا التحدي من جديد.

ترى هل تستقيم الأوضاع الروسية المتضاربة داخليا، والمتصارعة خارجية، وتمضي بها في طريق الانتصارات أم الانكسارات؟

تبقى القاعدة الحاكمة، والمعيار الذهبي في مسيرة الإمبراطوريات، كالتالي: “كل بيت ينقسم على ذاته يخرب، وكل مملكة تنقسم على ذاتها لا تثبت”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى