مواقف لا تنسى في موريتانيا – الرجال مواقف …فريد حسن

الشخصية الأولى :الراضي البيضاوي:
وهو موظف عادي كان يعمل في الخارجية الموريتانية , لم أكن أعرف أنه يقيم في غرفة في الفندق بجوار غرفتنا , الرجل كان يسكن مع زوجته المصرية الشابة في نفس الفندق الذي كنا فيه ؟ وهو موريتاني مع جنسية أردنية حيث ولد هناك ؟ والذي غادر والده موريتانيا ليقيم في الأردن ويعمل مستشاراً للملك الأردني الحسين بن طلال !
ثم ليعود الراضي إلى مسقط رأس أبيه , ويعمل موظفاً في الخارجية الموريتانية ؟
كيف تعرفت عليه ؟ : في ذلك اليوم الذي كنت في قمة حزني وهمّي أي ثاني يومٍ من وصولي إلى موريتانيا , مرّ الرجل أمام غرفتنا التي لم نكن نغلق بابها بسبب الحر!
رجل في الأربعينات من عمره , أسمر اللون يلبس بذلة من سترة وبنطلون ( وهذا كان وقتها عيبٌ عند الموريتانيين فعله داخل موريتانيا , إلا للراغبين في المغادرة يوم سفرهم , أو العائدين إليه يوم عودتهم ), وكان العوام يسمونه في موريتانيا ( لباس النصارى ) , كان الرجل يضع نظارات طبية ملونة على عينيه , ويضع غليوناً في فمه , يشعله بين الحين والآخر ,
(علماً أن من كانوا يدخنون الغليون في موريتانيا في ذلكم الحين كانوا معدودين) لأن أكثر المدخنين كانوا يستعملون ( الطوبه والمونيجا ) أو السجائر العادية !
كان يحمل بيده كتباً وجريدة لأنه كان يحب القراءة كثيراً , كنا قد انتهينا من طعام الغداء للتو, حيث اشتركت مع رفيقي في إعداده وكان طاجيناً سورياً مكوناً من بطاطا وطماطم وزيت مع بصل بدون لحم , وكنا قد وضعنا الشاي على الموقدة الكهربائية .
سلّم الرجل وهو ذاهب إلى غرفته , سلّم باللهجة السورية أو المشرقية ( مرحبا يا شباب ) ظننا أن الرجل ليس موريتانياً , ورددنا عليه السلام .
سألنا هو: من وين الشباب ؟ قلنا له من سورية .
( وعرفت منه لاحقا أنه كان قد درس سابقاً في جامعة دمشق ) !
دعوناه لشرب الشاي الأحمر معنا , رحب ولبّى دعوتنا وجلس يبادلنا الحديث , حديثنا دار حول ظروفنا الصعبة وظروف البلد الصعبة , وكيف أني كنت قبل ساعات بصدد طلب العودة ؟
كان الرجل شديد الذكاء وإنسانياً, لم يكن مادياً قط , كان مهذباً , محباً لفعل الخير, محباً للعروبة والوطن , كان شجاعاً جريئاً , كان سريع البديهة يفهم الكلمة عندما ينطق محدثه بالحرف الأول منها , رحمه الله وغفر له وجعل مثواه الجنة , لم يكن عنده مشكلةٌ لا حلَّ لها !
بدأ بالحديث عن موريتانيا , طبيعتها , شعبها وعاداته وأخلاقه التي لم يكن هناك حينئذ , لها مثيل في غيرها من البلاد , سررت كثيراً بما قاله , وقلت له أريد أن أتعرّف على هذا الشعب الطيب !
ومن بين الأحاديث المتنوعة التي تحدثنا بها , عرّفته على نفسي بأنني كنت ملحناً في إذاعة حلب حيث سجلت فيها عشرة أغاني متميزة وناجحة , فقال لي : لماذا لا تقدم لهذا البلد ما لديك من فن ؟ قلت له : فعلا اليوم كنت مع رفيقي السوري نشتري بعض الأغراض من السوق وسمعت موسيقى تعزفها آلة وترية تسبق الأخبار كمقدمة موسيقية – مقدمة موسيقية لا تليق بإذاعة دولة في نهاية القرن العشرين , وقلت لرفيقي : أملي أن أضع موسيقى بديلة لهذه الدندنة التي تسبق نشرة الأخبار !
تعجب رفيقي من كلامي وقال : أستاذ تربية وعلم نفس! ما علاقته بتغيير هذه الموسيقى ؟ عندها أخبرته بألحاني المتميزة في إذاعة حلب !
أعود إلى البيضاوي الذي سألني : ألا تُسْمِعُنا شيئا من أغانيك ؟
أجبته بأني لم أحضر عودي معي لأن الناس خوفوني من اصطحابه معي , لأنهم في الجمهورية الإسلامية الموريتانية سيكسرون العود في المطار , وكنا نصدق كل ما يقال لنا عن موريتانيا , نعم نصدقه , فأنا أول رجل من حلب يزور موريتانيا !
حتى في إدارة الجوازات في سوريا عند مراجعة قسم البلاد العربية أحالني الموظف إلى قسم الدول الأجنبية , وعند مراجعتي قسم الدول الأجنبية قام رئيس القسم ليرافقني ويشرح لموظف قسم الدول العربية بأن موريتانيا عضو في الجامعة العربية وأشار إليها في خارطة الوطن العربي ! عندها قال الموظف إنها المرة الأولى التي يأتيني من يأخذ تأشيرة إلى موريتانيا ؟
أعود إلى حديثنا الشيق مع البيضاوي حيث قلت له: ليت عودي معي لكان لنا ما يسلينا ؟
فقاطعني قائلاً : ليست هناك مشكلة ! قُمْ معي لأحضر لك عوداً في الحال !
رافقته إلى بيتٍ قريب من الفندق وكان في البلوكات خلف البنك المركزي بعشرات الأمتار , حدثني ونحن نمشي إلى البيت الذي سنحضر منه العود, بأن صاحبه كان يدرسُ الموسيقى في العراق , وأنه أحضر معه هذا العود, وبإمكانه أن يعيرنا إياه .
إنه الفنان المرحوم سيمالي ولد همد فال والذي سأخصص له بحثاً منفصلاً يلي بحثي هذا عن البيضاوي ؟
أحضرنا العود وعدنا إلى الفندق لتبدأ معركتي الفنية طالما السلاح أصبح متوفراً ؟
في الفندق دوزنت العود ( طيّبْتُهُ ) أي وفقت بين الأوتار ليكون بينها الانسجام وتعطي أنغاماً صحيحة جميلة ( هذا الكلام لمن لا يعرفون عن الموسيقى إلا القليل) وعزفت وغنيت وأعجب البيضاوي بألحاني وغنائي , وقال ما رأيك أن أعرفك على الفنانة الأولى في موريتانيا وتتعامل معها في الفن , وأسمعني أغنية ريشة الفن التي كانت قد سجلتها المرحومة ديمي في تونس برفقة فرقة الإذاعة التونسية , أعجبتُ كثيراً بالأغنية وبصوت التي تغنيها , وأخذت الموضوع بِجِدِّيَةٍ أكثر , وأصررتُ على لقاء ديمي !
وفي ليال قبلها كان البيضاوي قد أخذني إلى بيت النانا مودرن , والنانا التقليديون , وإلى بيت الفنان الكبير المرحوم سيد أحمد البكاي ولد عوّا وكانت سهرةً غنيةً عند سيد أحمد البكاي حيث وجدته موسوعةً مفتوحة حيث قدّم لي شرحاً عن الموسيقى الموريتانية أنغاماً وإيقاعاً وأسمعني من التراث ما هو قريب جداً من الموشحات الأندلسية ( رحم الله الرجل وأسكنه فسيح جنانه ) كان اللقاء اليتيم بيني وبين المرحوم البكاي , لكنه كان طويلاً وكافياً لأعرف كل ما يهمني عن الفن الموريتاني , فكما كنتُ سريع الاستيعاب كان رحمه الله مُجيداً في الاختصار وتقديم ما يلزم لغريب مثلي يريد التعرف على جديد ؟
إذاً ذهبنا إلى دار أهل آب القديمة ومعي العود , غنيت لديمي,كما غنت هي لي , ولاحظت اهتمامها بالأغاني المشرقية وخاصة لأغاني كوكب الشرق أم كلثوم , وعرض البيضاوي علينا اقتراحاً : هو تشكيل فرقة اسمها ( فرقة الرشيد للغناء والنشيد بقيادة ديمي والأستاذ فريد) !
وكان البيضاوي مديرها الإداري , أما سائق الفرقة فكان المهندس الفرنسي فيليب , وعضو متمم هو المختار ولد بو بكر من بوتلميد , وافقتُه على عرضه , وكذلك فعلتْ ديمي !
في اليوم الثاني ذهب البيضاوي إلى فندق شنقيط في السوق الصغير مقابل سينما الملك (همام) وعرض على صاحب الفندق فكرة إقامة حفلة لفرقة الرشيد فيه , فطلب صاحب الفندق مبلغاً لا بأس به من المال , قال له البيضاوي وهو المدير الإداري للفرقة : نحن لن ندفع لك أي شيء , ولا نريد منك أن تدفع لنا أي شيء , أجابه صاحب الفندق وما ذا أستفيد أنا غير تنظيف الفندق بعد الحفلة , أجابه البيضاوي بل ستستفيد الكثير: حيث أنك ستبيع المأكولات والمشروبات وهي غالية في الفندق لأننا سندعو عشرات الموظفين الحكوميين ذوي المناصب المرموقة مجاناً وسيأتون من مكاتبهم مباشرة ( أي انهم سيكونون جائعين ) – إضافة إلى الدعاية التي سيحصل عليها فندقك !
وافق الرجل على يوم الحفلة وكان في الغد – قام البيضاوي بطبع بطاقات الدعوة على أوراق الآلة الكاتبة , وذهب إلى مكاتب الدوائر الحكومية التي كانت في مجمع متقارب يمتد من مجلس النواب إلى الإذاعة , وأنهى مهمته ظهراً وانتقلنا أنا وديمي والبيضاوي والعضوين فيليب والمختار إلى فندق شنقيط , وبدأ المدعوون يتقاطرون إلى الفندق وبدأنا نغني أنا وديمي , مرة أغاني منفردة من ديمي , ثم مني , وأخرى أغاني مشتركة مثل أغنية ريشة الفن وأغاني أم كلثوم , كانت فرصة للاستماع والاستمتاع والتعارف,وتعرف الحضور لأول مرة عليّ؟
فرح الجميع وخرجوا مسرورين !
هل هناك مدير أعمال يستطيع أن يفعل كل هذا وبهذه السرعة ؟ ويبذل كل هذا الجهد دون أن يكون هناك نقود يدفعها طرف لآخر ؟
أظن أن أحداً لا يستطيع القيام بذلك إلا البيضاوي رحمه الله ؟
نتابع الاسبوع القادم مع البيضاوي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى