افتتاحية/ عهد الإنصاف
“موريتانيا دولة تأسست على مقومات متعددة. فهي في المقام الأول أرض التقارب والتلاقي. وهي من الناحية التاريخية مهد التمازج بين أعراق متنوعة. وفضلا عن هذا كله فهي واجهة عوالم متعددة استطاعت على مرّ التاريخ أن تنصهر وتتفاعل فيما بينها لتكون بذلك كتلة متماسكة.
وقد مكنت هذه الوضعية من خلق ثقافة ذات دعائم أساسية تجسدت في المثابرة والتسامح والانفتاح. وتلك لعمري هي الفترة الزمنية المثلى المتجذرة في الأصالة التي طبعت مجتمعنا وإن كانت الحداثة الجامحة والشعبوية المتفشية قد أثرتا على الجو العام المفعم بالاطمئنان النفسي والتعاطف فيما بين الجميع.
لقد غَذَّتْ المفاهيم الفجة والعبثية والمخاوف المبنية على أساس طائفي والاستدلالات السقيمة واللامعقولة نهجا طائفيا مقلقا. إن تراجع الخطاب المؤسَّسِ على العقل في الذاكرة الجمعية والفضاء العام خلق بدوره طريقا سالكا جعل من إثارة المخاوف والشكوك سلاحا فتاكا يتم السعي من خلاله لزرع التشاؤم وممارسة الأساليب الاستفزازية لإيقاظ وتهييج الطائفية.
ولئن كانت تلك الفترة قد عَكَّرت صفو الجو العام واستطاع صيادو المياه العكرة أن ينفثوا سمومهم وما تمثله من خطر نَسْفِ القواعد الصلبة تلك، فإننا نشهد اليوم والحمد لله عودة الأمل. عودة عهد الأصالة، عهد الانبساط والارتياح، عهد التضامن والتعاضد، عهد لا يُغْبَنُ فيه أحد ويعطى فيه لكل ذي حق حقه، بكلمة واحدة عهد الإنصاف.
وفى ظل هذا العهد المفرح للنفوس تمكنا من مواجهة أعتى جائحة صحية ضربت العالم وهو في غفلة من أمره. لقد استطعنا بحكم ذلك أن نستفيد من هذه الوضعية. أولا حين تمكنا بالفعل من إعادة بناء “الدولة الحاضنة”، القادرة على الاستنفار وقت الضرورة، ليس لردع أو قمع مواطنيها الأبرياء وإنما لمآزرتهم وحمايتهم. ثم من خلال إحداث هَبَّةِ تضامن قوية، أعادت الاعتبار لِقِيَّمِ الإيثار وترسيخ الإيخاء. وأخيرا حين نَمَّت فينا الوعي الجمعي بضرورة الانكباب على العمل والتحلي بروح الجدية والمثابرة.
لقد بدأ عهد التضامن والتشارك والتجذر يؤتي أكله. فجو التهدئة الذي أصبح يحكم العلاقة بين الساسة والفاعلين الاجتماعيين هو في حَدّ ذاته بداية أسلوب جديد، الكل فيه مطالب بالمساهمة الفعالة في عملية البناء الوطني.
لقد انطلقت اللقاءات بين الأحزاب والحركات السياسة، مُؤذنة ببداية مشرقة لوئام وطني يجتمع أهله في سفينة واحدة، تبحر بهم إلى بر الأمان ولا تترك أحدا على قارعة الطريق. يجدون أنفسهم على متنها جميعا وجها لوجه، يناقشون قضايا وطنهم بدون إقصاء وبلا محاذير، في كنف تشاور وطني شامل.
أصالة وصمود ووئام وطني، مبادئ أساسية تخلق أرضية صلبة لتأسيس فضاء جامع مانع يشكل مهمازا قويا يُؤَمِّن صعودا سريعا وآمنا للحاضنة الاجتماعية ويَجْبُرُ أضرار إرث سيئ لتاريخ تخللته مشاهد مضطربة، رسمتها في أحايين كثيرة، حكامة دنسها سوء التسيير والمحاباة واتسمت بالعجز.
واحد وستون عاما خَلَتْ على قيام الدولة الموريتانية، تشكلت معالمها على أرضية متينة وتاريخ عبق ومفعم بالقيم العريقة، المواطنون فيها سواسية أمام القانون، لا وجود بينهم لأي تمييز وعلى أي أساس كان، يوحدهم الانتماء للوطن والحفاظ على مصلحته العليا.
وعلى الرغم مما واجهته موريتانيا من احتجاجات في المُنْطَلَقِ وضآلة المتاح لها لضمان قيام دولة عصرية، فقد استطاعت أن تَشُقَّ طريقا لها لم يكن مفروشا بالورود، مكنها في نهاية المطاف من أن تأخذ مكانا مميزا بين الأمم في المحفل الدولي.
والأمر الذي يبعث على الارتياح أكثر من ذي قبل، كون موريتانيا اليوم تتمتع بآلاف الأطر والمثقفين والكفاءات والمبدعين الذين يشكلون الدرع والمظلة الواقية من كل الأخطار مهما كان نوعها ومن أي جهة كانت، سواء تعلق الأمر بالتقلبات المناخية، أو تأثيرات العولمة الجامحة بما تحمله من آليات نَسْفِ كل أنماط الحياة البشرية الهشة وغير الصامدة، أو انعدام الاستقرار، أو التدهور الاقتصادي والاجتماعي الناجم عن مختلف أصناف الهجرة. وإلى جانب ذلك، فإن موريتانيا تشكل اليوم بحمد الله قطب استقرار وسط محيط إقليمي تسوده هزات عنيفة وعديدة، سابقها أشد خطورة من لاحقها.
إن الوعي الكامل بهذه الحقيقة يفرض علينا أن نسلك أنجع وأكثر الطرق أمنا بأن نُرَشِّدَ ونستثمر الجو السائد المبني على النزاهة والاحترام المتبادل بين مختلف الفاعلين والتشاور المستمر والمنفتح على الدوام. الجو المُؤَسِّسَ لحكامة تستقي مشاربها من التجذر المحكم في أصالة يمدها طموح قوي للحداثة.
إن المنظور الشامل القادر على تجاوز العقبات والمتيح للتبادل والوئام والمبني على القسط سيدفع لا محالة بالمواهب الخلاقة للموريتاني. لقد اكتسب شعبنا، عبر مساره التاريخي، مناعة وامتلك صمودا ثابتا يسمح له دوما بالمضي قُدُمًا مسلحا بالقيم الفاضلة، قَوَّامًا بالقِسْطِ، مُتَحَلٍّيا بالتسامح والإيثار، متشبثا بالاستقامة، بل وأكثر من ذلك كله يغمره الوعي الثاقب بمبدإ المصير المشترك وتَتَمَلَّكُه القدرة على الاستماع للآخر مفعما بروح مثالية استثنائية.
منظور يشكل في الآن نفسه مرتكزا حقيقيا لإصلاح جذري لإنتاج جيل موريتاني صالح ومتصالح مع ذاته، يصنع الحاضر ويُؤَمِّن المستقبل، معتزا بجذوره المتعددة والمتنوعة المشارب، مُتَأَصِّلا في تقاليده النابعة من الكرامة والعزة، عَاضّا عليها بالنواجذ، يستشرف مستقبلا واعدا لبلده في عصر الحداثة”.