اقتراع الثالث عشر من مايو ورهانات المرحلة / الدكتور البكاي ولد عبد المالك
في أيام قليلة قبل اقتراع الثالث عشر من مايو كنت قد توقعت وراهنت في سمرٍ ليليٍ مع بعض الإخوة والزملاء على النتائج الحالية، أو ما يشبهها، ولم يكن من بين الحاضرين من يؤيد ذلك الرأي.
في العلوم الدقيقة نقول بأن نفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج، ومع أن الأمر ليس صحيحا مائة بالمائة في الأمور البشرية، فإن ثمة بعض المعطيات وبعض الظروف الموضوعية التي كانت موجودة قبيل الانتخابات ساهمت في حصول هذه النتيجة، وبالتالي لم يكن لي حظ من الولاية في التنبؤ بها بل قدر يسير جدا من قراءة الواقع والتوقع بمآلاته.
في كل انتخابات هناك رابحون وهناك خاسرون، لكن الرهانات ليست دائما هي هي. لا توجد ممارسة ديمقراطية بدون أخطاء أحرى أن تكون عملية اقتراع في بلد نام مثل بلدنا تعيش ديمقراطيته في عقدها الثالث.
لست هنا في معرض تحليل أسباب “الهزيمة” لطرف معين ولا استعراض عوامل التقدم في النتيجة للطرف الآخر، فقد أفاض في هذا الموضوع كثيرون ممن أثق فيهم، وإنما خطابي هنا موجه للمجموعة الوطنية وللنظام السياسي برمته، أغلبية ومعارضة.
وبغض النظر عن التسليم بنتيجة الانتخابات أو عدم التسليم بها، فإن إعادتها بشكل كامل هو سيناريو عدمي وكارثي للديمقراطية الموريتانية بكل المقاييس: المادية والسياسية والأمنية، علاوة على الظلم الذي سيحمله لبعض الأطراف على الأقل. ولكن عدم “محاسبة” المسؤولين عن الأخطاء التي حدثت فيها وعدم اتخاذ إجراءات ملموسة وفعالة لتصحيحها قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة هو تفريط وإقرار للأمر الواقع، لأن الانتخابات الرئاسية في الواقع هي الأهم وهي مصدر السلطة الفعلية في نظام رئاسوي مثل نظامنا تمثل مؤسسة الرئاسة فيه قطب الرحى وليس البرلمان، أو المجالس الجهوية أو البلدية، التي ليس لها حتى الآن دور حقيقي وملموس لا في التنمية ولا في تسيير شؤون الجماعات المحلية، وهو اختلال ونقص من جملة النقائص الجوهرية التي يجب تصحيحها في نظامنا السياسي.
قد لا يكون هناك خلاف بين جميع المراقبين على ضعف أداء اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات وقلة الخبرة لدى طواقمها وهيئاتها المختلفة سواء على المستوى المركزي أو المستوى الجهوي، وهو ما يتحمل الجميع المسؤولية عنه أغلبية ومعارضة، وليس من الواقعية ولا من الموضوعية أو النزاهة الفكرية تحميل أخطائها لطرف دون الآخر.
اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات نحن من سميناها بهذه التسمية لنواري سوأتها وهي في الواقع “لجنة مختلطة غير مستقلة للانتخابات”.
الجميع مسؤول عما حصل، لأن لجنة مبنية على المحاصصة لا يُنتظر منها أن تكون مستقلة، وقد وقّعت جميع الأطراف منذ البداية على ألا تكون مستقلة، ولأن مسؤولية ما يجري حاليا من سجال بين أطراف العملية السياسية حول نتائج الانتخابات الأخيرة هو في الواقع نتيجة مترتبة -ولو جزئيا- على بعض المبادئ وبعض الجوانب الإجرائية التي تضمنها الاتفاق السياسي بين الحكومة والأحزاب والذي يحدد آليات ووسائل تنظيم الانتخابات، رغم أهميته وفائدته في جوانب عديدة.
ولا يمكن بطبيعة الحال استبعاد حدوث أخطاء يتحمل هذا الطرف أو ذاك المسؤولية عنها، ولكن الشيء المؤكد هو أننا قد وضعنا جميعا -بناء على اختيارنا العقلاني الحر- الأمر كله بين يدي تلك اللجنة التي شكلت بالتوافق.
ومع عدم وجود أدلة مقنعة وواضحة حتى الآن تؤكد صحة أو عدم صحة الانتخابات، كلها أو بعضها- لا لأن شيئا غير طبيعي وغير قانوني قد حدث أو لم يحدث، بل لأن مؤسسات الرقابة البعدية الدستورية والقضائية هي من يمتلك سلطة القول الفصل في هذه المسألة وليست الحكومة ولا المعارضة- فإن الأمر كله يجب أن يترك الآن لهذه المؤسسات لكي تقول كلمتها.
ولكي لا نظلم “اللجنة المختلطة للانتخابات” علينا أن نأخذ بعين الاعتبار جميع الظروف التي دارت فيها العملية الانتخابية بدء بالمناخ السياسي العام السائد حاليا -أو الذي كان سائدا حتى تنظيم الانتخابات- والأوزان النوعية للقوى السياسية التي تغيرت بالفعل نظرا لعوامل ذاتية في أغلب الأحيان ليس هذا مجال الحديث عنها، والظرف الزمني الفاصل بين الاتفاق السياسي بين الحكومة والأحزاب على المبادئ وتشكيل اللجنة وبين تنفيذها على أرض الواقع، وتعقيد الإجراءات الفنية لعملية الاقتراع ذاتها (بطاقة موحدة ومتعددة في آن واحد…)، وعدم أخذ تدني مستوى الوعي المدني الانتخابي (le civisme électoral) للناخبين في الأعماق، وعدم كفاية التحضير لعمليات الاقتراع من المنظور اللوجستي، وانعدام الشفافية في اختيار طواقم الإشراف الجهوي وقلة الخبرة لديها.. هذه العوامل كلها إذا أخذت في الاعتبار فلن تكون غير ذات أثر على عملية الاقتراع وفرز النتائج.
لكن على الرغم من أن نتائج الانتخابات جعلت بعض الفرقاء السياسيين في أوضاع نفسية سيئة قادتهم إلى بعض التصريحات التي تتنافى مع السلوك الديمقراطي، فإننا لا زلنا نمتلك بعض البدائل لتصحيح الأوضاع وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وهي في الواقع ليست خيارات بل ضرورة يتعين القيام بها لتفادي الأسوأ، وليس منها بطبيعة الحال لغة التهديد والوعيد والفوضى غير الخلاقة.
ومن هذه البدائل:
– تفعيل دور القضاء ومؤسسات الرقابة البعدية من خلال اضطلاع المؤسسات المعنية بالشكاوى والطعون والفصل في النزاعات بدورها بشكل كامل ونزيه من أجل إنقاذ نظامنا الديمقراطي، ويجب أن تحصل في هذا المجال على الدعم الكامل من طرف السلطة التنفيذية
– إعادة هيكلة اللجنة المستقلة للانتخابات وفرض آلية ومعايير واضحة لاختيار أعضائها وخصوصا لجانها الجهوية المكلفة بتسيير العملية الانتخابية على مستوى الداخل وضمان تمثيل متساوٍ ومتكافئٍ لجميع القوى وخصوصا توفر الخبرة والكفاءة في رؤساء المكاتب
– ولأجل ذلك لا بد من البحث عن وسيلة لاكتتاب لجان جهوية دائمة ذات خبرة (من رجال القضاء والمدرسين وبعض منظمات المجتمع المدني المستقلة…إلخ) لكي تكتسب خبرة تراكمية في تسيير العمليات الانتخابية على المستوى الجهوي
– اتخاذ إجراءات فعالة لمنع ترحيل الناخبين من دوائرهم الانتخابية
ولكن بغض النظر عما حصل حتى الآن وما قد يحصل في قابل الأيام، فإن هناك أمورا إيجابية كثيرة تحققت في هذه الانتخابات لأول مرة منها حياد الإعلام الرسمي إلى حد كبير وتوفير الدولة لوسائل مادية معتبرة للجنة وللأحزاب السياسية في حدود علمنا.
ومن الأمور الإيجابية التي حصلت في هذه الانتخابات كذلك انحسار الاصطفاف العرقي والطائفي والشرائحي وتراجع الخطاب التجزيئي قليلا عما كان عليه الأمر في الانتخابات الرئاسية الماضية، وهو ما انعكس -على ما يبدو- في الحصيلة الانتخابية لبعض القوى.
ولكن في المقابل وفي إطار النواحي السلبية هناك ظواهر سلبية رافقت العملية الانتخابية الأخيرة من أهمها تصاعد العصبيات القبلية بشكل لم يسبق له مثيل. وربما عرفت انتخابات الثالث عشر من مايو لأول مرة تمزقات خطيرة لا على مستوى الأحزاب التقليدية ذات المصداقية الضامنة للتوازن الضروري لنظامنا السياسي، ولا على مستوى الأحلاف والكتل السياسية المحلية، بل على مستوى البنيات القبلية ذاتها وفي القبيلة الواحدة ما ينذر بالخطر على الأمن القومي.
هذه هي أول انتخابات تحصل فيها معركة كسر العظم بين الأشقاء في الأسر والكيانات التقليدية دعما لموقف معين أو ردة فعل ضد موقف آخر أحيانا بدافع معنوي محض وليس بناء على رهانات الربح والخسارة أو الولاء التقليدي للسلطة أو المعارضة.
لا أتهم أحدا في وطنيته وفي محاولة جر البلد إلى الفوضى على غرار ما يحدث في بعض الدول في الجوار الإقليمي وفي منطقة الساحل بوجه عام طولا وعرضا من المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر ومن البحر الأبيض المتوسط إلى المناطق الرطبة في إفريقيا جنوب الصحراء.
فلا تزال موريتانيا في عيون الشركاء وفي عيون مواطني دول منطقة الساحل واحة للسلام والأمن يلجأ إليها الجميع في أحلك الظروف. هذا الوضع الاستثنائي قد يتغير لا سامح الله إذا لم يتحلّ الجميع بالمسؤولية وضبط النفس والإقرار بـ “ظلم” ذوي القربي وتغوّلهم وتفضيله على فظاعة المتطرفين المتربصين بنا ووحشيتهم، وهم قريبون جدا جدا منا، وينتظرون فرصة الفوضى للانقضاض علينا، ويرون في موريتانيا، ثقافة وشعبا وموقعا جغرافيا وتاريخا، موقعا مثاليا لتأسيس امبراطوريتهم في الغرب الصحراوي وبسط سلطتهم على المنطقة بأسرها، موريتانيا في عيونهم هي قطعة البزول الناقصة التي بها تكتمل اللعبة، فحذاري.. حذاري